بدايةً، اؤكّد أنّ هذه المواضيع الّتي أطرحها من على صفحات صحيفة «حيفا»، هي من خُطب يوم الجمُعة الّتي ألقيها، يوم الجمُعة من الأسبوع ذاته.. لقد اخترت حديث للرّسول (ص) الّذي من خلاله يعالج بعض الأمراض الأخلاقيّة، والّتي لها أثر خطير فيما يتعلّق بالعلاقات الاجتماعيّة بين النّاس، يبيّن فيه خصال النّفاق من باب معرفة الشّر والابتعاد عنه.
عن عبد اللّه بن عمر عن النّبي محمّد (ص) أنّه قال: «أربع من كن فيه كان منافقًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر».. أخرجه مسلم والبخاري.
عند قراءة هذا الحديث يجب العلم أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوصه، وأنّ الحكم بالنّفاق باقٍ، وينطبق على كلّ مَن يأتي بهذه الخصال متعمّدًا غير جاهل بحكمها؛ لأنّ هذه الخصال مع قول الرّسول (ص): «وإذا أؤتمن خان»، يتورّع عنها كلّ إنسان أصيل يحبّ النّاس ويطمع بمرضاة ربّه؛ كما جاء في الحديث «الدّين المعاملة». ولمعرفة المقصود من الحديث لا بدّ من معرفة ما هو النّفاق؛ فكلمة النّفاق تدلّ على إخفاء الشّيء وإغماضه، وهو من النّفق (السّرب في الأرض).
وسمّي النّفاق نفاقًا، لأنّ صاحبه يكتم في نفسه خلاف ما يظهر. فكأن الإيمان يخرج من صدره ويحلّ مكانه غيره، وهو من جنس الخداع والمكر؛ وهو قسمان: النّفاق الأكبر والنّفاق الأصغر. أمّا النفاق الأكبر فإنّه يظهر صاحبه الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ ويخفي ما يناقض ذلك وجزاء من كان حاله. هكذا هو الدّرك الأسفل من النّار، لقوله تعالى {إنَّ المُنَافِقينَ فِي الدَّرْكِ الْأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}.
وأمّا النّفاق الأصغر هو إظهار غير حقيقته في الصّلاح. قال الحسن: «من النّفاق اختلاف القلب واللّسان، واختلاف السّر والعَلَن واختلاف الدّخول والخروج». والنّفاق أشدّ ما كان يخافه أصحاب النّبيّ (ص)، حيث يروى أنّ أبا بكر مرّ على حنظلة الأسدي وهو يبكي، فقال له: مالك؟! فأجاب نافق حنظلة: نكون عند رسول اللّه (ص) يذكّرنا بالجنّة، كأنّها رأي العين، فإذا رجعنا عافسنا (لاعبنا) الأزواج والصبية، فنسينا كثيرًا. قال أبو بكر: فواللّه أنا كذلك فانطلقنا إلى رسول اللّه (ص). فقال مالك: يا حنظلة. قال: نافق حنظلة يا رسول اللّه.
وذكر له مثل ما قال لأبي بكر؛ فقال رسول اللّه: لو تدومون على الحال الّتي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة».
ومعنى الكلام أنّ مَن تمكّنت الخصال الأربع من نفسه كبرت مصيبته، لأنّه يصبح منافقًا خالصًا، ومن اتّصف بخصلة من هذه الخصال فإنّه يفتح على نفسه باب آفة كبيرة، قد تجرّه إلى الإصابة ببقيّة أجزاء النّفاق، فعليه أن يبادر – وبسرعة – إلى الإقلاع عن هذه الخصلة.
الخصلة الأولى (إذا حدّث كذب):
المؤمن لا يمكن أن يكون كذّابًا لأنّه يتّصف بالصّدق؛ والصّدق سمة أهل الإيمان والكذب. خلق قبيح يدلّ على نفس خبيثة، صاحبها يصغر في ميزان اللّه وفي أعين النّاس. بل قال رسول اللّه (ص): «كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثًا، هو لك مصدّق، وأنت له به كاذب». والكذّاب يكذّب الكذبة، فتجرّه إلى أخرى، حتّى يكتب عند اللّه كذّابًا.
الخصلة الثّانية (إذا وعَد أخلف):
ومعنى هذا أنّ الإنسان قد يعد الوعود الكثيرة، ولكنّه أصلًا ينوي ألّا يفي؛ فيجتمع عليه مع عدم الوفاء الغدر والخديعة، مع أنّه مُطالَب بالوفاء، مع الصّغير والكبير، والقريب والبعيد، مع الصّديق والعدوّ. قال أبو هُريرة: «مَن قال لصبيّ تعال هاك تمرا، ثمّ لا يعطيه شيئًا، فهي كذبة».
الخصلة الثّالثة (إذا خاصم فجر):
هذه الظاهرة هي الأكثر انتشارًا بين النّاس، حيث إنّه لأبسط خصام تجد من يتحوّل إلى أسد كاسر يريد أن يحرق الأخضر واليابس؛ وقد يصل إلى القتل والخيانة والتدنيس، فينبعث إلى ألوان شتّى من الفجور والآثام؛ وكثيرًا ما يتعمّد الخروج عن الحقّ بدافع الكذب الّذي يوصله إلى الفجور. وقد حذّر النّبيّ (ص)، قال: «إيّاكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار». وكلّما زاد معيار التّعدّي كان الإثم أكبر، وفي ذلك قال رسول اللّه (ص): «إنّ أبغض الرّجال إلى اللّه الألد الخصم». وقال: «مَن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط اللّه حتّى ينزع».
الخصلة الرّابعة (إذا عاهد غدر):
والعهد هو الموثق الّذي يأخذه الإنسان على نفسه، والغدر هو نقض العهد والقرآن. يقول: «واوفوا بالعهد، إنّ العهد كان مسؤولًا». وفي الحديث «حسن العهد من الإيمان»؛ والنّبيّ (ص) حمل على الغدر، فقال: «لكلّ غادر لواء يوم القيامة يعرف به». والغدر حتّى مع غير المسلم حرام، لأنّ المسلمين عند شروطهم وعهودهم. قال رسول اللّه (ص): «مَن قتل نفسًا معاهدة بغير حقّ، لم يرح رائحة الجنّة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا».
ليس دنيا إلّا بدين وليس الدّين إلا مكارم الأخلاق
إنّما المكر والخديعة في النّار وهما من خصال أهل النّفاق