منذ نشأة الصِّحافة وتطوّرها في العصور القديمة، وحتّى اليوم، امتازت بغريزة حبّ الاستطلاع، والبحث والتطلّع لمعرفة كلّ ما هو جديد في الحياة، من أجل الاطمئنان إلى البيئة، الّتي يعيش فيها الإنسان، داخليّـًا وخارجيّـًا. وكانت الأخبار، في هذه العصور الأولى، خليطًا من الخيال والواقع، تمشيّـًا مع رغبات السّامعين، بغية التّسلية، الإشادة بالبطولة والقوّة، وكان هذا اللّون من القصص كثير التّداول بين النّاس يعمر طويلًا، وينتقل من جيل إلى جيل، على صورة القصص الشّعبي، الفولكلور.
ويُقال إنّ الصِّحافة بدأت في صورة الأوامر، الّتي كانت الحكومات توفد بها رسلها الّذين يحملون رسائلها مكتوبة، على ورق البردي، إلى كلّ إقليم. وكان لهؤلاء الرّسل محطّات معيّنة يتّجهون إليها، بما يحملون من الرّسائل، على ظهور الخيل الّتي تتوقّف في كلّ محطّة. ومتى وصلت الرسالة إلى حاكم الإقليم، أذاع ما فيها على سكّان إقليمه. وقد يلجأ، في بعض الأحيان، إلى إطلاق المنادين ينادون بما في هذه الرسائل من مضامين.
وتطوّرت الصِّحافة وأصبحت مقرونة بالطّباعة الّتي اخترعها يوحنا چوتنبرچ في ألمانيا، وقد ثبت أن أوّل كتاب، طُبع بحروف منفصلة، هو الإنجيل المقدّس، الّذي طُبع باللّغة اللاتينيّة فيما بين 1452 و1455م. في مدينة مينز الألمانيّة، ويحمل اسم چوتنبرچ.
بعد نجاح فكرة الطّباعة الحديثة، في ألمانيا انتقلت إلى دول أوروبّا، في الفترة من عام 1456 إلى 1487م. وكانت إيطاليا أولى الدّول بعد ألمانيا في هذا المجال، وتلتها باقي الدول ثمّ انتقلت الطّباعة إلى تركيا عام 1503، وبعدها روسيا عام 1553، أمّا الولايات المتّحدة فقد عرفتها عام 1836.
الصِّحافة العربيّة الحاليّة
بدأت الصِّحافة العربيّة منذ العقد الثّاني من القرن التّاسع عشر، حين أصدر الوالي داود باشا أوّل جريدة عربيّة في بغداد اسمها «جورنال عراق»، باللّغتين العربيّة والتّركيّة، وذلك عام 1816. وفي عام 1828 أصدر محمّد علي باشا صحيفة رسميّة باسم جريدة «الوقائع المصريّة»؛ وفي عام 1867 صدرت في دمشق جريدة «سوريا»، وعام 1865 صدرت في حلب جريدة «فرات». وفي بداية القرن العشرين كثر عدد الصّحف العربيّة، وخصوصًا في سورية ومصر، فصدرت «المؤيّد» و«اللواء» و«السياسة» و«البلاغ» و«الجهاد» و«المقتبس»، وغيرها. ومن الصّحف القديمة الّتي لا زالت تصدر في مصر، جريدة «الأهرام»، والّتي ظهرت لأوّل مرّة في عام 1875. وهكذا بدأت الدول العربيّة بإصدار الصّحف والتّعامل مع هذا الجانر الإعلاميّ إلى اليوم.
حريّة الصِّحافة
حريّة الصِّحافة، أو الصِّحافة الحرّة، هي الضمانة الّتي تقدّمها الحكومة لحريّة التّعبير، وغالبًا ما تكون تلك الحريّة مكفولة من قبل دستور البلاد للمواطنين. وتمتدّ لتشمل مؤسّسات بثّ الأخبار وتقاريرها المطبوعة. وتتّسع تلك الحريّة لتتضمن جمع الأخبار والعمليّات المتعلّقة بالحصول على المعلومات الخبريّة بقصد النّشر. وفيما يتعلّق بالمعلومات عن الحكومة، فلا تتدخّل الحكومة في حريّة الصِّحافة، إلّا ما يتعلق بشؤون الأمن القومي.
وفي بلادنا تُلزَم الصّحف بتقديم مواضيعها للرّقابة العسكريّة أو الأمنيّة إذا تطرّقت إلى المجال الأمنيّ أو العسكريّ. ودون ذلك فإنّ الموضوع مفتوح لحريّة التّعبير – بحسب سياسة كلّ صحيفة وميول صاحبها. لأنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان ينصّ على أن: «لكلّ فرد الحقّ في حريّة الرأي والتّعبير، ويتضمّن هذا الحق حريّة تبني الآراء من دون أي تدخّل، والبحث عن وتسلّم معلومات أو أفكار مهمّة عن طريق أيّ وسيلة إعلاميّة، بغضّ النّظر عن أيّة حدود».
اسطنبول تحترق
حدّثنا قداسة البابا شنودة الثالث (الرّاحل) عن حادثة إعلاميّة، وقال: كان محرّر إحدى الصّحف يعكف على عمله اليوميّ بجدّ ونشاط؛ وفي أحد الأيّام توجّه إلى رئيس التّحرير، وقال: لقد امتلأت كلّ صفحات الجريدة وبقيت نصف صفحة فارغة، ألا يوجد أيّ مقال إضافيّ لكي نملأ به الفراغ؟ فقال رئيس التّحرير: أكتب نبأً عن أنّ اسطنبول تحترق. فتعجّب المحرّر من الطلب وقال: كيف أفعل ذلك؟ فأجابه: أنت محرّر وتستطيع أن تجد النّص الملائم للموضوع. وما كان من المحرّر إلّا أن جلس ليكتب وقائع الحادث الّذي أدّى إلى اندلاع حريق في اسطنبول، في أحد أحياء المدينة، وقد أتت النيران على الممتلكات والمنازل، وقامت فرق الإطفاء والإنقاذ بكلّ جهدها لإنقاذ المُصابين وإبعاد المواطنين عن مكان الخطر.. إلى آخر النّبأ الّذي انتهى ولم تكتمل الصفحة، بل بقي حوالي ربع إنش فراغ.
وعاد المحرّر إلى رئيس التحرير وقال: كتبت أجمل مقال، ولكن بقي لديّ حوالي ربع إنش، فماذا أفعل؟ فقال رئيس التّحرير أكتب الآن نفيًا للنّبأ. فكتب المحرر، وردنا الآن ونحن نكاد نحرّك دواليب المطبعة أنّ النبأ عار عن الصّحة، واسطنبول لم تحترق!!
هكذا هو الحال
إنّ صحافتنا المحليّة، وخاصّةً العربيّة في بلادنا، تسعى إلى ملء صفحاتها بما هبّ ودب، حتّى إنّ محررًا لإحدى الصّحف قال لي مرّة، إنّ رئيس التّحرير مستعد لكي يحذف أيّ مقال لأعظم كاتب، ويُلغي أيّ موضوع بغاية الأهميّة لكي ينشر إعلانًا يعود عليه بالفائدة الماليّة. ونشأت الصّحافة المحليّة على أساس أنّها مشروع تجاريّ للكسب الماديّ وليس بدافع الالتزام بقضايا النّاس واستعراض همومهم، وأن تكون منبرًا لأفكارهم وأحوالهم.
ونأتي إلى الطّامة الكبرى، وهي الأخطاء الّتي تعجّ بها وسائل الإعلام، اللّغوية منها والنحويّة والموضوعيّة، فلا تكاد تسمع نشرة أخبار خالية من الخطأ، أو ترى صحيفة عربيّة خالية من الأغلاط اللغويّة والنحويّة.
ويصبح الصِّحافي هو الضحيّة لأنّه هو الظّاهر على أعين القرّاء، وهو الّذي يظهر اسمه على هذا المقال أو تلك المقابلة، أو هذا النّبأ أو ذاك التّعليق.. وبالحقيقة فإنّ هذا الصِّحافي لا يميّز بين التّحقيق وبين المقال.. بين المقالة وبين الرّأيّ الشّخصي.. بين النبأ وبين التّعليق.. بين الموضوع المطروح صحافيّـًا وبين موضوع الإنشاء الّذي يكتبه في المدرسة.. فهو غير ملمّ بنواحي العمل الصِّحافيّ، ولا يجيد هذه الصّنعة ولا يتقن هذه المهنة. فلماذا يدخل هذا المعترك القاسي، ولماذا يقتحم هذا المجال اللّئيم، ولماذا يسقط في بحر لن ينقذه أحد منه؟
كن صحافيّـًا فيكن!
والسّؤال هنا كيف يصبح المرء صحافيّـًا؟ هل يمكن لكلّ من يشاء أن يصبح صحافيّـًا، هل بمجرّد أن يرغب المرء بالقيام بأيّ عمل، يمكنه ذلك بكل سهولة؟ الجواب على هذه الأسئلة: في صحافتنا العربيّة، نعم!! نعم!! ممكن ويجوز ولا مانع.. فبمجرّد أن يطلب أيّ شخص من محرّر أي صحيفة أن يعمل عند صحافيّـًا، ويوافق هذا المحرّر، يصبح هذا العامل الجديد، أو الشّغيل الجديد صحافيّـًا بقدرة قادر ومعونة الهمّة والنّشاط. وهكذا يحمل الصِّحافيّ الجديد، الغضّ، الخداج، قلمه، وآلة التّصوير ويشرع بالكتابة، وينقل إلى المحرّر أيّ خبر يسمعه، أو تعليق يطلب منه، ويبدأ هذا المحرّر بنشر ما يشاء وحذف ما يشاء، وتعديل ما يشاء.. وفجأة يجد الصِّحافيّ المتعثّر نفسه يحاول السّباحة في بحر لا قعر له ولا قرار، لا ميناء له ولا مرفأ، وهو لا يملك أيّ قارب للنّجاة، ولا مجاديف لكي يستطيع خوض اللّجج الصِّحافيّة بين وحوش بحر الصِّحافة الشّرسة، وكلّها تحاول الانقضاض عليه لتفترسه لقمةً سائغة، وحتّى أنّه لا يحمل أيّ معطف للنّجاة، فيجد أنّه دخل معتركًا لا أوّل له ولا آخر..
فإمّا أن يغطس ويغرق ولا أحد يسأل عن حياته ومستقبله، وإمّا أن يحاول العوم بمفرده، يكافح، يقاتل، ينصب المكائد، يدبّر الدّسائس، ويترصّد غيره ليستطيع أن يحرز ولو لقمة العيش، وهو لا يعلم أنّ النّظام السّائد هنا هو نظام الغاب، وأنّها شريعة الأدغال، وأنّه يجلس على حافّة بركان على وشك أن يبتلعه ويبتلع صحيفته معه.. وهو كالأبله يظنّ أنّه الصِّحافي المغوار، والمقاتل الغدّار، والنّصر حليفه إن شاء اللّه. والأنكى من ذلك أنّه يحمل بطاقة تعارف ويكتب عليها أنّه صحافيّ.. واسم الصّحيفة الّتي يعمل بها، وهو لا يدرك أنّه بعد أسبوع أو شهر أو سنة سيلقي به المحرّر جثّة هامدة في السّاحات والطّرقات لتفترسه الوحوش، أو سيجعل منه جيفةً لا يطيقها حتّى الأحبّاء.
وكما يصبح المسلم مُسلمًا بمجرد أداء الشّهادتين، والمسيحي مسيحيّـًا بمجرد أنّه تعمد، هكذا يقول المحرّر للصّحافيّ كن صحافيّـًا بقدرة اللّه ومشيئته ومعونته فيكن!! لا يسلحه، ولا يرشده، ولا يوجّهه، ولا يوضح له طبيعة عمله.
وهذا ما نلاحظه في وسائل الإعلام اليوم، الّتي تصدر على شكل وريقة! أو نشيرة! أو مجيلة! أو موقع إعلاميّ تطبق شهرته الآفاق، ويذيع صيته خلف البحار! لأنّ المحرّر التّاجر لا يعير مهنة الصِّحافة أيّ اهتمام، ولا يوليها أيّ اعتبار ولا يتّخذها رسالة سامية، ولا خدمة اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو علميّة بل يهمه الإعلان.. والإعلان.. والإعلان ولا شيء غير الإعلان..
إليك أيّها المحرّر
أرجو أن ترأف بالصِّحافيّين العاملين في «دكّانك» الصِّحافيّ، أشفق على قلّة وعيهم، أعطف على غبائهم، أو بالأحرى «غبائك»، لأنّك تُلقي بهم في اليم المسعور، استمع إلى زميل لك مارس هذه المهنة منذ أكثر من أربعين عامًا متواصلة، وجرّب العمل الصِّحافي في كافة الوسائل الإعلاميّة، المسموعة والمرئية والقروءة، وحتى الـ«إنترنيتيّة» منها.
أناشدك أن تحترم المهنة فتحترمك، أن تحترم القرّاء لكي يحترموك، أن تلتزم بقواعد وأصول المهنة الشّريفة لكي تكون موضوعيّـًا في صحيفتك، أرجوك أن لا تتلاعب بالقذارة والصِّحافة الصّفراء لكي تجذب القراء إلى أوساخك وأنت تظنّهم ذبابًا، أن تفيد القرّاء في كلّ عدد يصدر عن «دكّانك الإعلاميّ»، لأنّ القّارئ الّذي لا يستفيد من أيّ صحيفة يتناولها بين يديه، وسرعان ما يلقي بها مع النّفايات، أو يحرقها في نار جهنّم وبئسَ المصير، أو أنّه في أحسن الأحوال سيستخدمها قموعًا للفستق والبذور.
أعطِ القرّاء المعلومة اللّازمة، والوقائع الصحيحة لما جرى من أحداث، أجعل كتاباتك صادقة، دع القرّاء يعتمدون على المعلومات الّتي تقدّمها لهم، وأن تأخذ المؤسّسات الخبرات الّتي تعرضها أمامهم بعين الاعتبار والصّدق والثّقة، فأساس الموضوع هي الثّقة المتبادلة بينك وبين القرّاء، لا تجعلهم يسخرون منك، وألّا يقارنون صحيفتك بما يصدر من صحف في البلاد العربيّة أو الأوروبيّة، لأنّك ستبدو قزمًا صغيرًا جدًا جدًا إزاء عمالقة الصِّحافة وجبابرة الإعلام. انظر حولك، تطلّع إلى ما يجري في العالم، تعلّم، زِد معلوماتك، وسع آفاقك، لا تبقى متحجّرًا في مكانك، ومتقوقعًا في دُنياك الصّغيرة، ولا تظنّ القرّاء مُغفّلين، فإن غافلتهم سيكشفون أمرك بعد عدد أو اثنين، وتنكشف الفضيحة.
لست هنا بصدد تقديم درس أو محاضرة، ولكنّي أتحدّث من منطلق ما يجري في السّاحة الإعلاميّة اليوم، من فوضى عارمة وعدم نظام وقلّة انضباط، وقلّة حيا، في عهد فقدنا فيه الأداب وافتخرنا بالعربدة، افتقرنا فيه للأخلاق وزاد اعتزازنا بالشّرور، افتقدنا فيه طول البال والصّبر وتباهينا بالعصبيّة والتسرّع. ولذلك ليس كلّ من أمسك بالقلم وخطًّ حرفًا أتقن الكتابة، وليس كلّ مَن ارتدى مئزرًا يصبح طبيبًا، ولا كلّ مَن ركب المطايا خيّالها، ولا كلّ مستحمّ في البحر غوّاص أو عوّام، فتعلّم واستفد واتّعظ.
أنا لم يضعني أحد حكمًا، ولم يطلب أحد منّي أن ألقي محاضرة، أو أرشد إلى العمل الصِّحافي، ولكنّي وجدت نفسي مُرغمًا لكي أوجّه نقدًا بنّاءً إلى زملائي، إلى أصدقائي وأترابي، فلا عتبًا ولا لومًا ولا ضغينة ولا كراهية ولا حقدًا ولا حسدًا، بل يحزّ في نفسي، ويجزّ في روحي، ويطعن في أحشائي، وأنا أرى المتألمّين والمعذّبين يتقلّبون على جمر الشّواء وقد يلتهمونهم لقمةً سائغة ولحمًا نيئًا، لسمعتهم وصيتهم، بينما أسيادهم يسرحون ويمرحون، ولا رادعٍ ولا وازعٍ.
أن تكون صحافيّـًا
أن تكون صِحافيّـًا يعني أنّك ذو أخلاق ومسؤوليّة، والصِّحافة تعني وطنيّة ومشاركة في رفع شأن المجتمع، والصِّحافة تعني منبرًا لبناة المجتمع وليس لهادميه، لإحلال الوفاق وليس للتّفرقة والتّحريض، لتكريم المِعطاء والنّشيط وليس لإبراز دور السّارق والمجرم والمحتال، حتّى أصبحنا ننشر أخبار الجريمة لكي نُظهر المجرم الذكيّ والشّاطر، ننشر الأخبار السّلبيّة لكي نعطي فرصة للسّلب وتفشيه، نلفّق الأخبار لكي نزيد من حدّتها، نفشي الأسرار لكي ننشر غسيلنا الوسخ على الملأ.
وذلك بدلًا من تنبيه المجتمع إلى هذه السّلبيّات، وتحذير الجمهور من مخاطر الجريمة، وحثّ النّاس على تدارك الأوضاع قبل تدهورها. لا نخشى ضمائرنا، ولا تردعنا معتقداتنا، وننسى أنّنا مؤمنون نتّعظ بالوصايا، ونقتدي بالقدّيسين، ونسير على هدي الرّسل والأنبياء. وكتبنا المقدّسة كلّها تحضّ الإنسان وتدعوه إلى الخير والصّلاح والابتعاد عن الشّر والبغضاء، والتمسّك بالفضيلة بدل الرّذيلة. فلماذا لا نكون أفرادًا صالحين، لماذا لا نسهم في بناء المجتمع من منطلقات الوطنيّة والمسؤوليّة، لماذا نطعن أخانا ونخونه، ونضمر له الشّر بدل المحبة؟! المحبّة هي أساس الكون، فإذا أحببت لن يصدر عنك إلّا الخير، وهذا ما أتمنّاه لكم جميعًا.