صوّره: وائل عوض
زار مدينة حيفا، مؤخّرًا، الكاتب والروائيّ الفِلَسطينيّ أنور حامد، القاطن في مدينة الضّباب، لندن، بدعوة من مكتبة ودار النّشر «كلّ شيء» لصاحبها صالح عبّاسي؛ وخلال زيارته عرّج على مكاتب صحيفة «حيفا»، فكان لي معه هذا الحوار..
– هل لك أن تحدّثنا عن سبب زيارتك حيفا؟
حامد: أعتبر هذه زيارة تاريخيّة لمدينة حيفا، رغم أنّي زرتها في التسعينيّات من القرن الماضي بشكل عابر، إلّا أنّ للزيارة هذه نكهة خاصّة، حيث سنحت لي الفرصة التعرّف إلى أهل حيفا ولقاءَهم عن قرب. دخلت بوساطة جواز سفر بريطانيّ؛ فأنا من سكّان بلدة عنبتا (قضاء طولكرم)، وكنت مفصولًا قسرًا حتّى عام 1967 عن الأهل في حيفا وشِمال فِلَسطين، ولقائي أهل حيفا يعني ليَ الكثير، فهو بمثابة «جمع شمل»!
– وكيف وجدت أهل مدينة حيفا؟
حامد: أهل حيفا هم الأصالة الّتي بقيت في الوطن. وأنا فخور وسعيد جدًّا بسماعي اللّغة العربيّة الّتي أفتقدها كثيرًا. فأهل حيفا حافظوا على اللّغة من منطلق حماية الذّات وتأكيد الوجود، فتمسّكوا بلغتهم وحافظوا عليها وعلى الثّقافة الفِلَسطينيّة.. وهذا ما أحنّ إليه وأفتقده.
– لماذا هاجرت، إذًا؟
حامد: أنا لم أهاجر، غادرت البلاد عام 1976 إلى هنغاريا (المجر) لهدف الدّراسة لا الهجرة.
– وماذا درست؟
حامد: درست نظريّة الأدب، وأقمت في هنغاريا مدّة 20 سنة، ومنذ 10 سنوات أقطن مدينة الضّباب، لندن، وأعمل محرّرًا في الـ«بي.بي.سي.».. فعمليّـًا أنا مُغترب لا مهاجر، أعيش بعيدًا عن وطني.
– ولِمَ لم تفكّر في العودة إلى وطنك؟
حامد: فكّرت كثيرًا، لكنّي – في النّهاية – لم أعُد! فحياتي ارتبطت بخيوط يصعب الفُكاك منها!
– «يافا تُعِدّ قهوة الصّباح» هي روايتك الأخيرة، لكنّها الأولى الّتي كُتبت باللّغة العربيّة، لماذا؟
حامد: أنا درجت على كتابة رواياتي باللّغة المجريّة (الهنغاريّة). كتبت بالمجريّة محاولًا أن أنقل حياة الفِلَسطينيّ ومأساته للقارئ الأوروبّيّ. كتبتها لأناس ينظرون إلينا من بعيد، بكلّ موضوعيّة وشفوفيّة خالية من العواطف والانفعالات.
ويافا مشروع فِلَسطينيّ لا أوروبّيّ. أردت أن أعيد الحياة إلى ذاكرة ميّتة. فالفِلَسطينيّ قبل الـ48 كان أشبه بذاكرة ميّتة في مخيّلة الكثيرين. فالفِلَسطينيّ يظهر في الإعلام والأدب والشّعر – غالبًا – كلاجئ أو مشرّد، وتسيطر «النكبة» عليه من أخمصَي قدميه إلى قمّة رأسه. إلّا أنّي أردت أن أنقل صورة مغايرة، لكنّها حقيقيّة وتاريخيّة لنهاية الثّلاثينيّات وبداية الأربيعنيّات من القرن الماضي، أنقل صورة الفِلَسطينيّ وحياته الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة ما قبل النكبة، واللّجوء والترحيل.
– عن يافا ما قبل الـ48؟
صحيح. أردت نقل الحياة اليوميّة المَعِيشَة. فالفِلَسطينيّون لم يبدأوا حياتهم منذ النّكبة! حيث كانت لهم حياة سعيدة مزدهرة، وحركة ثقافيّة وفنّيّة واجتماعيّة وسياسيّة رائدة، وهذه «الصورة» غائبة ومغيّبة عن أدبنا الفِلَسطينيّ، تقريبًا.. لذا أوردتها في روايتي الأخيرة.
لِمَ يجب، دائمًا، التّضامن والتّعاطف مع الفِلَسطينيّ من خلال النكبة والتشريد، فقبل النكبة عاش الفِلَسطينيّ حياةً عاديّة، كباقي شعوب الأرض. وفي روايتي الأخيرة كنت معنيّـًا بإعادة هذه الحياة إلى الذّاكرة، ومن هنا أتى عُنوان الرواية «يافا تُعِدّ قهوة الصّباح»؛ فكأنّ يافا تستفيق من سباتها لتعيش من جديد.
– هل وجدت إقبالًا على رواياتك باللّغة المجريّة؟
حامد: نعم. وقد فاجأني ذلك جدًّا. للمجريّين فضول كبير لتعرّف حضارة وحياة شعوب أخرى. وهم يثمّنون الكتابة بلغتهم الأمّ، ويفضّلونها على التّرجمة؛ لأنّ مَن يكتب بلغتهم سيعرف توجّهاتهم وسيخاطب ذهنيّتهم.. وهذا كان هدفي – أن أصلهم وأن أعرض قضيّتي بلغتهم. وقد نجحت في ذلك. لقد كرّمني المجريّون أكثر ممّا أستحق، وأقبلوا على شراء كتبي ورواياتي، حتّى إنّ رئيس الجمهوريّة كرّمني كذلك.
إنّ الشعب المجريّ (الهنغاريّ) قارئ نَهِم.. ففي العالم العربيّ ككلّ بالكاد تُباع 1,500 نسخة من الرواية، بينما في هنغاريا وحدَها بيعت روايتي بأكثر من 100 ألف نسخة!
– لماذا لم يلامس أنور حامد الفِلَسطينيّين ويصلهم كما وصل الأوروبّيّين؟!
حامد: أنا أكتب بروح مختلفة نوعًا ما، أكتب بموضوعيّة لا تروق لعدد كبير من القرّاء والنقّاد الفِلَسطينيّين. نحن نحبّ التغزّل بالذّات، والبكاء على الأطلال، وذكر النّكبة في غالبيّة رواياتنا؛ إلّا أنّي أكتب بخلاف ذلك، بعيدًا عن الحنين والتغزّل، أكتب بكلّ موضوعيّة فأنقل الوقائع كما هي.
– لكنّ النّكبة هي أكبر واقع..
حامد: كلامك صحيح. لكن يجب ألّا تكون المحور الأساس في كلّ كتاباتنا. أنا أحاول أن أصوّر الإنسان الفِلَسطينيّ كما كان يصوّره أستاذي و«أبي الرّوحيّ» في الكتابة، الكاتب إميل حبيبي. كان يكتب بكلّ صدق، ويعرض الوقائع كما هي، لا يلوّنها أو يجمّلها. كان يبحث عن الأمور الشّائكة ويعالجها، ويبحث عن المفاسد في مجتمعنا ليستأصلها. لم تكن مَهمّته التّغزّل، وكم كانت تعجبني كتاباته السياسيّة.
– وأنت ماضٍ في أسلوب إميل حبيبي؟
أنا متأثّر بكتاباته، إلّا أنّ لديّ أسلوبيَ الخاصّ. أكتب رواياتي بموضوعيّة ومصداقيّة، من دون أن أجامل أحدًا أو أجمّل الواقع.. وهذا – على ما يبدو – لم يَرُق للقارئ الفِلَسطينيّ..
إن أردتَ كتابة رواية تاريخيّة يجب أن تنقلها للمتلقّي بكلّ أمانة وصدق، وأن تنقل له جميع الأحداث، مهما كانت صادمة ومؤلمة. التّاريخ يحتاج إلى أمانة، ويجب ألّا نشوّهه، وعلينا تقديم مجتمعنا في رواياتنا وقصصنا بكلّ مصداقيّة، مهما كلّفنا الأمر. فلا قيمة للأدب، وخصوصًا الروائيّ – التاريخيّ منه، إذا افتقد المصداقيّة.
– كلمة أخيرة..
أشكر صديقي وأخي صالح عبّاسي (أبو راني) على دعوتي لزيارة مدينة حيفا، وعلى ضيافته واستقباله الرّحب. ولأهل حيفا أقول، عبر صحيفة «حيفا»: أثمّن أصالتكم وأشكر لكم حفاظكم على لغة أهل البلد.. وعلى أمل أن نبقى على تواصل.