رجا زعاترة، سكرتير الحزب الشيوعي والجبهة في حيفا
الموسميّة صفة جميلة في الطّبيعة، فتخيّلوا كم كانت الدّنيا ستغدو مملـّة لو كان الطقس ماطرًا طيلة السّنة، أو شديد الحرارة طيلة السّنة. أمّا في السياسة، فالموسميّة صفة غير حميدة وغير محبّذة، وكثيرًا ما تتلازم مع ممارسات بعيدة عن المبدئيّة. ومن تجليّات هذه الموسميّة، في السياسة، إطلاق بالونات «وحدة» تجريبيّة قبيل كلّ انتخابات، برلمانيّة أو بلديّة، غالبًا ما تكون أشبه بفقاعات صابون وسرعان ما تتلاشى كأنّها لم تكن.ويمتشّق البعض، بين الحين والآخر، استطلاعات للرّأي «تثبت» أنّ 60 أو 70 بالمائة «يؤيّدون الوحدة».
ومن المعروف في علم الإحصاء أنّ الأهم في الاستطلاعات ليس الأجوبة، بل الأسئلة. فحين يسألك أحدٌ «هل أنت مع الوحدة؟» غالبًا ما سيكون الرّد بالإيجاب. فمن منّا «ضدّ الوحدة»؟لكن الحقيقة هي أنّ الأمر ليس بتلك البساطة. فالسّؤال الحقيقي، والمغيّب في معظم الأحيان، هو: أيّة وحدة نريد؟ وكيف؟ إنّ الوحدة المطلوبة هي وحدة النّضال، طيلة أيّام السّنة وليس في المواسم فحسب، وليس في الانتخابات فقط: إنّها الوحدة الكفاحيّة تحديدًا.
إنّ وحدة نضال الجماهير العربيّة، كأقليّة قوميّة أصليّة مضطهدة، هي خطوة تقدّمية، لا تهدف إلى عزل الجماهير أو إلى تقوقعها على ذاتها، بل رصّ صفوفها لتكون أقوى، ولتلعب دورًا أكبر وأكثر عمقًا وتأثيرًا على السّاحة السياسيّة، ولتكون قوّة تدفع، سويةً مع حلفائها من القوى التقدّميّة في المجتمع اليهوديّ، نحو السّلام العادل، والمساواة التّامة، والعدالة الاجتماعيّة.
وحين تردّ الناس في الاستطلاعات أنّها «مع الوحدة» فهي تقصد، في حقيقة الأمر، هذا النّوع من الوحدة.هذا هو نهجنا في الحزب الشّيوعي والجبهة. وهو ليس مجرّد «تكتيك» عابر، بل استراتيجيّة راسخة، وليس من اليوم: فمنذ الخمسينيّات تحالف الشيوعيّون والقوميّون في إطار «الجبهة الشّعبيّة». وبادر الحزب الشيوعي إلى بناء تحالفات كثيرة ومتنوّعة وإلى بناء هيئات كفاحيّة تمثيليّة (كلجان واتّحادات الطّلاب الثّانويّين والجامعيّين، وجبهة الناصرة الديمقراطيّة، واللجنة القطرية للسّلطات المحليّة العربيّة ولجنة المتابعة العليا، ولجنة المبادرة العربيّة الدرزيّة التي كافحت التّجنيد الإجباري وسلخ الطائفة المعروفيّة عن شعبها).
وجاء تأسيس الجبهة الديمقراطيّة للسّلام والمساواة، بعد يوم الأرض عام 1976، ليشكّل خطوة نوعيّة في هذا الإطار، ترمي إلى تعزيز وحدة الصّف الكفاحيّة على أساس برنامج سياسيّ مشترك. والخيط النّاظم في كلّ هذه التّجارب هو إيجاد أرضيّة مشتركة، قوامها البرنامج المشترك والممارسة المشتركة، مع إبقاء مساحة للتنوّع الفكري، شريطة أن يكون هذا التنوّع ضمن الخط الوطنيّ والتقدّمي العام. وقد تحالف الحزب الشّيوعي والجبهة، لاحقًا، في ساحات مختلفة، مع الحركة التقدّمية والحزب الديمقراطي العربي، ومع التّجمّع الوطني والحركة العربيّة للتّغيير.
وللأسف فمعظم هذه التّجارب لم يُكتب لها النّجاح والاستمرار. ويعود هذا إلى عدّة عوامل، لكن السّبب المركزي هو أنّها كانت تحالفات انتخابيّة بالأساس، لم تصمد في امتحان الزّمن ولا في امتحان الممارسة، وسرعان ما ذهبت أدراج الرّيح.هذا من النّاحية السياسيّة، أمّا في الجانب الانتخابي، والّذي يتوجّب أخذه أيضًا بالحسبان، فإنّ التّحالفات قد لا تؤتي ثمارها بالضّرورة. فـ«الأسطورة الحضريّة» (Urban legend) تقول، مثلًا، إنّ «أيّ تحالف يرفع نسبة التّصويت العامّة»، وإنّ «أيّ تحالف يقلّل من قوّة أحزاب السّلطة».
ولكن في الحقيقة فإنّ الصورة ليست كذلك تمامًا: ففي الانتخابات يبذل كلّ حزب وكلّ حركة سياسيّة أقصى الجهود، ويستثمرون كلّ مواردهم، ويبحثون عن كلّ صوت، ويستمرون في العمل حتّى الدقيقة الأخيرة قبل إغلاق الصّناديق لإحراز أفضل نتيجة. بينما قد يؤدّي غياب التّنافس إلى انخفاض نسبة التّصويت، بسبب الاعتماد المتبادل على الحزب الآخر. أمّا بخصوص التّصويت لأحزاب السّلطة، فمعظم من يصوّت لتلك الأحزاب يفعل هذا طمعًا في وظيفة أو مصلحة ذاتيّة، أو بموجب صفقات مع «مقاولي أصوات»، وليس لقناعات سياسيّة.
هذا الجانب (الانتخابيّ) هام، ولكنّه ليس الجوهريّ؛ فالجوهر هو أنّ المقوّم الأساسي للوحدة الحقيقية هو الموقف المشترك، والممارسة المشتركة، طيلة أيّام السّنة. فهل بمستطاع مَن هو غائب عن ساحات العمل والنّضال أن يقتصر حضوره على الانتخابات؟ وهل «الوحدة» هي مجرّد شعار لاستمالة النّاس واستدرار عواطفهم والتّغطية على ضعفك كحزب، أم نهج استراتيجي لتقوية النّضال والوصول إلى أهداف تخدم النّاس؟ هل «الوحدة» سلعة تتاجر بها حين تكون مربحة، بينما قد تتاجر بسلعة أخرى، طائفيّة أو عائليّة أو غيرها، في أماكن أخرى؟
إنّ الوحدة الاستهلاكيّة، الموسميّة، الانتهازيّة، هي زبدٌ عابر، يذهب جُفاءً؛ وأمّا الوحدة الكفاحيّة، المبدئيّة، الواعية لقضايا النّاس والطّلائعيّة في النّضال من أجل النّاس، فهي الّتي تنفعُ النّاس وتمكثُ في الأرض. وهذا هو نهج الحزب الشيوعي والجبهة قُطريًا وفي حيفا أيضًا.