أقيمت يوم الاثنين الأخير (2013/3/11)، في نادي «حيفا الغد»، في قلب حيّ وادي النسناس العربيّ النابض، محاضرة عن معاناة ونضالات الشّعب الكولومبيّ، حضرها عشرات النّاشطات والنّاشطين من حيفا والمِنطقة. وقد ألقى المحاضرة، النّاشط السياسيّ والاجتماعيّ، آدم بار؛ وذلك بعد زيارة له لأمريكا اللاتينيّة، استمرّت 14 شهرًا، حيث أمضى الشهور الأربعة الأخيرة من زيارته في كولومبيا، متطوّعًا مع حركات الفلاّحين، ومشاركًا في عدد من الورشات التثقيفيّة التي تقيمها هذه الحركات لكوادرها.
ولدى عودته إلى حيفا، دعاه «حَراك حيفا» لإلقاء محاضرة عن معاناة ونضالات الشّعب الكولومبيّ، لهدف تثقيف الناشّطات والناشطين، ولتشجيع روح التضامن الأمميّ بين الشّعوب المضطهدة وطبقاتها الشّعبيّة المستضعَفة.
معاناة ونزوح..!
لم نكن نعلم أنّ شعب كولومبيا يعيش كارثة الحرب الأهليّة منذ 65 عامًا – منذ عام 1948؛ حيث اغتيل جايتان، المرشح «الشّعبي» للرئاسة. لم نعلم أنّ أربعة ملايين من سكّان كولومبيا يعيشون معاناة النّزوح داخل بلادهم، جرّاء المذابح والتّهجير وسلب الأراضي والتّطهير الاجتماعيّ، كما أنّ عددًا مشابهًا اضطرّ إلى اللجوء خارج البلاد هربًا من الجوع والإرهاب والاغتيال السياسيّ (في بلد يصل تعداد سكانه إلى نحو 46 مليون نسمة).
لم نسمع شيئًا عن قتل ألوف النّاشطين النقابيّين والاجتماعيّين والسياسيّين، وعن نزوح مئات الألوف سنويًا تحت هجوم النظام، «الصّديق الأوّل» للولايات المتّحدة في أمريكا اللاتينية. لم نعرف الكثير عن نضالات هذا الشّعب، ولا عن الأحزاب السياسيّة والحركات الشعبيّة والتنظيمات الفدائيّة، ناهيك عن شهدائه والأسرى وألوف المفقودين.. فجاءَت هذه المحاضرة لتلقي الضّوء على بعض الأمور.
كولومبيا بين التدخّل الإمبرياليّ وعنف النّظام واغتيال الديمقراطيّة
سرد آدم بار في محاضرته تاريخ كولومبيا منذ الاجتياح الأوروبيّ عام 1499، مرورًا إلى تحرّرها من الاستعمار الإسبانيّ عام 1819، ومحاولة حركة التحرّر بقيادة سيمون بوليفار لتوحيد أمريكا اللاتينية لكي تكون دولة مستقلة، وخيانة هذه المشروع من قبل الإقطاعيّين والبرجوازيّة المحليّة.
أمّا الحدث المأساويّ الأبرز في تاريخ كولومبيا الحديث، فكان إضراب عمّال شركة «الفواكه الموحّدة» بالقرب من مدينة سانتا مارتا في شهر كانون الأوّل من العام 1928، حيث طالبوا بتحسين ظروف عملهم؛ إلّا أنّ الولايات المتّحدة هدّدت حكومة كولومبيا بالتدخّل عسكريّـًا للحفاظ على مصالح الشِّركة الأمريكيّة، إن لم تفلح بقمع الاحتجاجات العمّالية؛ فأرسلت حكومة كولومبيا الجيش لقمع العمال وهذا بدوره وضع الرشاشات على أسطح المباني وذبح العمّال وعائلاتهم. وبعد تنفيذ المجزرة البشعة حملوا جثث الضّحايا في قطار نقل الموز وألقوا بها في البحر، ولم يُعرف عدد الضّحايا الفعليّ، ولكنّه يقدّر بثلاثة آلاف..!
وتحدّث بار عن استيلاء شركة «كوكا كولا» على موارد المياه في البلاد، فتقوم بتعبئتها وبيعها لأهل البلاد، وذلك بموافقة الحكومة الكولومبيّة الّتي تبرّر ذلك بأنّ الشِّركة توفّر بذلك فرص عمل للكولومبيّين، بينما هي في الواقع تستعبدهم! وعندما يناضل العمّال تقمعهم الشِّركة عبر ارتباطها بعصابات مسلّحة تقوم بفكّ الإَضرابات واغتيال المناضلين النقابيّين (والحديث لا يسري على كولومبيا فقط، إنّما سائر دول أمريكا اللاتينيّة، الّتي تسيطر عليها الإمبرياليّة الأمريكيّة!).
وأضاف بار: هذا التدخّل من قِبَل الولايات المتّحدة، واستعداد حكّام كولومبيا الدّائم لخدمة الإمبرياليّة، وذبح فقراء الشّعب يعاود نفسه خلال الحروب الأهلية.. وبعد سنوات من العنف السياسيّ تشكّلت في كولومبيا في خمسينيّات القرن الماضي «جمهوريّات حرّة»، تجمّعات سكّانّية من الفلّاحين والمزارعين الّذين كانوا يديرون أمورهم بشكل مستقل في مناطق بعيدة ومعزولة من البلاد. أمّا بعد انتصار ثورة كوبا عام 1959 فقد أمرت الولايات المتحدة حكومة كولومبيا أن تقضي على «خطر الشيوعيّة» الدّاهم – ونتيجة للهجوم العسكريّ على هذه التجمّعات السكانية تشكّلت تنظيمات الـ«فارك» (القوات المسلّحة الثوريّة الكولومبيّة – جيش الشعب) والـELN (جيش التّحرير الوطنيّ)، وهي قوى تبنّت نهج المقاومة المسلّحة.
البحث عن حلول سياسيّة
وأشار بار في محاضرته على أنّ ثوّار كولومبيا حاولوا دائمًا الابتعاد عن العنف والبحث عن حلول سياسيّة تضمن الأمان للجماهير الشعبيّة، وتفسح المجال للنّضال الجماهيريّ للدّفاع عن حقوق العمّال والفلّاحين، ولتغيير نظام الحكم من خلال الانتخابات الديمقراطيّة. وذكر بار في محضارته تجربة مفاوضات السّلام بين الحكومة وتنظيمات المقاومة في ثمانينيّات القرن الماضي، والّتي أدّت إلى ترك السّلاح من قبل العديد من الثّوار وتشكيل «الاتّحاد الوطني» (UP) عام 1985، كإطار سياسيّ علنيّ للنّضال الجماهيريّ والانتخابيّ. ولكن خلال السّنوات التالية قتلت الحكومة الألوف من قادة وناشطي الاتّحاد الوطنيّ، مستخدمةً الجيش وعصابات الفاشيّة المسلّحة، ومن بينهم أعضاء برلمان ورؤساء بلديّات وثلاثة مرشّحين لرئاسة الدولة. وقد أثبتت هذه التّجربة أنّ النّضال السياسيّ العلنيّ في ظروف كولومبيا، هو أسرع طريق إلى الموت!!
أمّا في تسعينيّات القرن الماضي فقد شهدت كولومبيا محاولة جديدة لإنعاش مفاوضات السّلام من خلال تشكيل مناطق آمنة تسمح لتنظيمات المقاومة بالحفاظ على قوّاتها وسلامة كوادرها وجمهورها من دون اشتباك دائم. ولكن هذه المحاولة انتهت مرّة أخرى بتدخل سافر من الولايات المتّحدة، حيث أعلنت عن مشروع جديد باسم «خُطّة كولومبيا». من خلال هذا المشروع – وبحجة محاربة تجارة المخدّرات – سلّحت ودرّبت الولايات المتحدة الجيش النظامي الكولومبيّ وموّلته بمبالغ طائلة. وقد وصلت حرب الإبادة ضد عمّال وفلاّحي وفقراء المدن في هذه البلاد إلى قمّم جديدة من الدمويّة، وأوصلت أوريبا (ممثّل عصابات القتل الفاشيّة المسلّحة الـ«بارا ميليتاريس») إلى رئاسة البلاد.
النظّام مدعوم.. والشّعب يتضامن مع فِلَسطين
وروى آدم بار عن التّعاطف الحميم الذي كان يلقاه من الناشطين الكولومبيّين عندما كان يعرّف نفسه كناشط فِلَسطينيّ. وهذا دليل على الوعي العامّ في أمريكا اللاتينيّة لقضيّة فِلَسطين، ولمعاناة الشّعب الفِلَسطيني، وبالأخصّ في كولومبيا. وينعكس التّضامن الجماهيريّ مع نضال الشّعب الفِلَسطينيّ وثورته التحرريّة في نحو 10 جداريّات «چرافيتي» كبيرة تملأ حرم جامعة كولومبيا الوطنيّة، وغيرها من الجداريّات المنتشرة في فضاء العاصمة بوغوتا. وفيها شعارات ومعطيات عن النضال الفِلَسطينيّ وعن انتهاكات إسرائيل لحقوق الشّعب الفِلَسطينيّ.
وفي نهاية اللّقاء دعا بار إلى التّفكير في نشاطات تضامن مع نضالات الشّعب الكولومبيّ، والعمل على زيادة الوعي بين الناشطات والناشطين في فِلَسطين لمعاناة الكولومبيّين ولنضالاتهم البطوليّة، انطلاقًا من ضرورة تكريس نهج التّضامن الأمميّ بين الشّعوب المناضلة، ضدّ هيمنة القوى الإمبرياليّة وأعوانها في أرجاء العالم. وقد طرح الحاضرون بعض الاقتراحات العينيّة التي ستؤخذ بالحسبان.