
تقرير: مطانس فرح
تصوير: وائل عوض
عادت إلى مدينة حيفا، مساء السّبت الأخير، سهير بدارنة (أم مجد)، من زيارة لها إلى مخيّم الزّعتري (مخيّم للّاجئين السّوريّين في الأردنّ)، لتروي لنا – في لقاء لصحيفة "حيفا" – سبب وتفاصيل ووقائع هذه الزّيارة..
مخيّم الزّعتري (تعريف)
مخيّم الزّعتري هو مخيّم للّاجئين السّوريّين الّذين بدأوا النّزوح (اللّجوء) إلى الأردنّ في شهر تمّوز/يوليو من العام 2012 – وما زالوا – بعد احتدام الأحداث الّتي رافقت الثّورة السّوريّة، وتردّي الأوضاع الإنسانيّة، الّتي آلت إلى مأساويّة، بل إلى نكبة بشريّة.
أقيم مخيّم الزّعتري في الأردنّ على مقربة من الحدود السّوريّة، نحو 20 كيلومترًا شرق مدينة المفرق (شمال شرق الأردنّ). لا يوجد إحصاء دقيق عن عدد اللّاجئين السّوريّين الموجودين داخل المخيّم، لسبب توافد شبه يوميّ لأعداد إضافيّة منهم على المخيّم.
تتضارب الأرقام، ولكن – على ما يبدو – يصل عدد اللّاجئين في المخيّم، حاليّـًا، إلى ما يقارب الـ98 ألف لاجئ، من أطفال وشباب ونساء وشيوخ؛ والعدد آخذ في الازدياد، ومن المرجّح أن يفوق الـ100 ألف لاجئ خلال الأسابيع القريبة القادمة.
معظم اللّاجئين الوافدين على المخيّم من محافظات الجنوب السّوريّ ودرعا وحِمص ودمشق وريفها. ويذكر أنّ عدد اللّاجئين السّوريّين في الأردنّ يصل اليوم – لا توجد إحصائيّات دقيقة – إلى أكثر من 350 ألف لاجئ؛ بينما تشير مفوّضيّة اللّاجئين أنّ أكثر من 200 ألف لاجئ إضافيّ في طور التّسجيل!
مخيّم الزّعتري يشكو توافد وتزاحم اللّاجئين
في قلب الصّحراء الأردنيّة، وتحت أشعّة الشّمس الصّيفيّة الحارقة، وبرد الشّتاء القارس، يتكدّس اللّاجئون السّوريّون داخل مخيّم الزّعتري الّذي تمّ إنشاؤه على مقربة من الحدود السّوريّة – الأردنيّة؛ حيث تعاني هذه العائلات الّتي لجأت إلى المخيّم؛ هربًا من المعارك بين جيش النّظام السّوريّ والجيش السّوريّ الحرّ، ظروفًا معيشيّة صعبة جدًّا، عدا انعدام الاستقرار والأمن العامّ، وانتظار المجهول. وقد ضاق اللّاجئون ذَرْعًا بهذه الأوضاع المأساويّة، حيث ينتظرون حلولًا وحَراكًا دوليّـًا، إضافةً إلى تحسين ظروف عيشهم.
يتدفّق، يوميّـًا، العشرات من اللّاجئين القادمين من الجانب الآخر، من الحدود السّوريّة، برفقة الجيش السّوريّ الحرّ في أغلب الأحيان. وأكثر من نصف هؤلاء اللّاجئين من القاصرين والقاصرات. وتواجه المملكة الأردنيّة ومؤسّساتها الأمنيّة وجمعيّاتها صعوبة في التّعامل مع هذا التّدفّق المتواصل للّاجئين السّوريّين!
وقد أعلنت الأمم المتّحدة أنّ إجماليّ عدد اللّاجئين السّوريّين في الدّول الأربع المجاورة لسورية (الأردنّ، لبنان، العراق، وتركيّا) قارب نحو المليون لاجئ. وقد فاق عدد القتلى الـ80 ألف إنسان. وما زال النّزاع مستمرًّا.. والأعداد في تزايد!

– ما الّذي دفعك إلى زيارة مخيّم الزّعتري، تحديدًا؟
بدارنة: "أتت زيارتي في أعقاب ما تابعته عبر شاشات التّلفزة والـ«إنترنِت»، وما آل إليه مخيّم الزّعتري في ظلّ العواصف العاتية الّتي عصفت بالمِنطقة، وتدنّي درجات الحرارة، وسقوط الأمطار الغزيرة؛ حيث تحوّل إلى «مستنقع» وباتت أرض المخيّم بركًا من الوحل والسّيول، وعدد من الخيم الّتي كانت تشكّل مأمنًا للعائلات ذهبت أدراج الرّياح، ما زاد من مأساة ومعاناة وألم هؤلاء اللّاجئين.. لم تكفِهم مأساة التّهجير والواقع المرير الّذي يعيشونه، فجاءَهم "جبروت الطّبيعة" ليزيد مأساتهم."
نكبة.. ولجوء
أمام هذا الواقع المرير الّذي تصفه بدارنة، و"جبروت الطّبيعة"، فضّل بعض اللّاجئين الموت عن العيش داخل المخيّم، بينما البعض فضّل الصّبر لحين العودة، ولكن – من دون شكّ – تعيش هذه العائلات المتضرّرة حالة مأساويّة و"لجوءًا ثانيًا" داخل المخيّم.
– وكيف تمّ تنسيق الزّيارة؟
بدارنة: "أنا فاعلة في حركة "حَراك" شباب حيفا؛ وضمن لقاءاتي وجلساتي مع الزّملاء، اقترحت فكرة زيارة المخيّم على شاب يدعى ورد ياسين، وعلى زميلتي رجاء زعبي – عمري، فراقت لهما الفكرة. وحينها قرّرنا إشراك الآخرين في الفكرة عبر موقع التّواصل الاجتماعيّ ("فيسبوك")؛ لهدف جمع التّبرّعات من الأهل والمعارف والأصدقاء، لدعم اللّاجئين السّوريّين في مخيّم الزّعتري، وخصوصًا الأطفال منهم.. فتجاوب العديد مع هذه الحملة، وانضمّ إلينا شباب من عدّة حركات شبابيّة في البلاد، كاللّد والرّملة وكفر قرع وباقة الغربيّة والنّاصرة وغيرها."
دخولي المخيّم اكتنفته صعوبات جمّة
وعن ترتيب الدّخول إلى المخيّم، قالت بدارنة: "لم يكن من السّهل دخول مخيّم الزّعتري والاطّلاع على أوضاع اللّاجئين السّوريّين فيه.. فالأمر مشروط بالحصول على تصاريح خاصّة، حيث يصعب جدًّا لأيٍّ كان دخول هذا المخيّم." وأضافت: "أجريت اتّصالاتي مع صديقاتي ومعارفي في الأردنّ لهدف الحصول على تصاريح لدخول مخيّم الزّعتري.
فأرسلت جواز سفري مسبّقًا لهدف إصدار تصاريح الدخول. ومن حسن حظّي أنّ د. ناصر الدّين عايش أبو لحية (سفير النّوايا الحسنة للأمل والسّلام) من "منظّمة السّلام الدّوليّة"، وعماد هرماس (سفير النّوايا الحسنة للشّباب بالسّلام الدّوليّ) من "جمعيّة الشّيخ نوح"، إضافةً إلى السّلطات الأمنيّة الأردنيّة، سهّلوا مَهمّة دخولي المخيّم وقاموا بإصدار التّصاريح اللّازمة لتنقّلاتي داخل المخيّم."
– كيف رتّبت السّلطات دخولك؟
بدارنة: "كان من الصّعب، بدايةً، إصدار تصاريح والسّماح لي بالتّنقّل داخل المخيّم، لأنّني أملك جوازَ سفر إسرائيليّـًا؛ بحجّة أنّ الأمر يخطّر حياتي داخل المخيّم! فالجهات الأردنيّة (الجيش الأردنيّ، قوى الأمن، والدّاخليّة)، هي الكفيلة بإصدار التّصاريح، حيث لا يمكنك دخول هذا المخيّم من دون موافقة السّلطات، لأنّها المسؤولة عن إدارة وتنظيم الأمن داخل المخيّم.

إلّا أنّي حصلت على التّصاريح اللّازمة، وعلى موافقة من قبل السّلطات المسؤولة عن إدخال مرافقين بمعيّتي؛ ولكن هذا كان منوطًا بشرط أساس، بأن تكون زيارتي للمخيّم تحت مسؤوليّة وكنف "منظّمة السّلام الدّوليّة" و"جمعيّة الشّيخ نوح"، لا بشكل عشوائيّ أو فرديّ."
– ومَن رافقك إلى المخيّم؟
بدارنة: "غادرت البلاد يوم الثّلاثاء الماضي (29 من شهر كانون الثّاني المنصرم) برفقة: رنا عوايسي (النّاصرة)، راني هيكل (كفر قرع)، ومحمّد زيدان (بيت جنّ)، وهو طالب في جامعة إربد، سمع عن الحملة عبر الـ"فيسبوك"، فأراد المشاركة.. حملت معي الأموال الّتي جمعناها ضمن حملة التّبرّعات، متّجهةّ إلى الأردنّ."
– وماذا حملتم لأطفال المخيّم؟
بدارنة: "حاجات أهالي المخيّم وأطفالهم تتغيّر وتتبدّل يوميّـًا، حسَب المعونات والمؤن الّتي تصلهم؛ لذا كان علينا تحديد ومعرفة احتياجاتهم. وقبل زيارتنا المخيّم قامت الجمعيّة والمنظّمة بالاتّصال مع المسؤولين في المخيّم، وعلمنا أنّ أطفال المخيّم – ولسبب حالة الطّقس – في أمسّ الحاجة إلى قفّازات (كفوف) وقبّعات وشالات، تقيهم برد الشّتاء القارس."
فِلَسطينيّ نابلسيّ.. وفِلَسطينيّة حيفاويّة
وأضافت بدارنة: "استطعنا – بوساطة الأموال الّتي جمعناها – اقتناء أكثر من 1,500 طقم للأطفال، تحوي قفّازات وشالات وقبّعات. وفي حديثي مع صاحب متجر الألبسة علمت أنّه فِلَسطينيّ من أصل نابلسيّ.. فشرحت له عن الحملة، وبأنّي فِلَسطينيّة حيفاويّة أتيت خصوصًا لمؤازرة ودعم أطفال المخيّم المهجّرين، الّذين يعيشون ظروفًا صعبة، بل نكبة.
فما كان منه إلّا أن تبرّع بـ1,700 طقم إضافيّ لبنات وأولاد المخيّم.» صمتت هُنيهة، نظرت إليّ بعينين مغرورقتين بالدّموع، وتابعت: «لقد أثّر فيّ جدًّا تصرّف هذا التّاجر الفِلَسطينيّ."
صِحافة.. منظّمات.. جنود.. والتّصوير ممنوع!
وعن دخولها المخيّم، قالت بدارنة: "في اليوم الثّاني لوصولنا عمّان (يوم الأربعاء) التقينا عماد هرماس مصحوبًا بصِحافيّين لتغطية الحدث، ومتطوّعين للمساعدة، ود. ناصر الدّين أبو لحية، واتّجهنا جميعًا برفقة رنا وراني ومحمّد، والرّزم طبعًا، صوب مخيّم الزّعتري.. وقد خيّم على سفرنا للمخيّم التّوتّر والتّرقّب؛ حيث يبعد المخيّم قُرابة السّاعة ونصف السّاعة عن العاصمة عمّان، باتّجاه الحدود السّوريّة. مساندة ومرافقة ممثّلي "منظّمة السّلام الدوليّة" و"جمعيّة الشّيخ نوح" ساهمت كثيرًا في تسهيل وتنظيم دخولنا، فلم نتعرّض لتحقيقات أو مساءَلات خاصّة.

ونحن – بدورنا – كنّا منظّمين، كذلك، واحترمنا "الأوامر". طُلب منّا عدم التّصوير داخل المخيّم، إلّا في أماكن محدّدة جدًّا، وعدم التّجوال إلّا ضمن مجموعة، ومُنعنا من دخول الخيم."..قاطعتها، قائلًا: "على ما يبدو – كَيْلا تنقلوا صورًا واقعيّة مؤلمة تعكس حال المخيّم، أو قصصًا لا ترغب السّلطات بتسريبها إلى الإعلام..!".
«سجن كبير»..!!وصفت بدارنة وضع المخيّم، قائلةً: "المخيّم مُحاط بسياج معدِنيّ كبير، لا يمكنك دخول المخيّم إلّا عبر بوّابة حديديّة صغيرة مُحاطة بعناصر وقوى الأمن. الحراسة داخل المخيّم مشدّدة جدًّا، فمَن يدخل المخيّم من اللّاجئين يصعب عليه الخروج منه.. دخول المخيّم صعب، والخروج منه أصعب."!
– أنت تتحدّثين، إذًا، عن سجن كبير أو "چيتو"..؟!
بدارنة: "شيء من هذا القبيل." صمتت، أومأت برأسها، وقالت بحسرة: "أصعب ما في الأمر أن يتحوّل الإنسان الحرّ الطّليق، إلى سجين داخل مخيّم.".. تنهّدت وقالت: "آخ يا زمن.."!
– وفق ما شاهدتِ، أتعتقدين أنّ هناك إجحافًا أو معاملة غير سويّة، من قبل السّلطات الأردنيّة بحقّ اللّاجئين السّوريّين..؟
بدارنة: "لا يُمكنني أن أجزم. فرغم الحالات الإنسانيّة الصّعبة الّتي يعيشها أهالي مخيّم الزّعتري، علينا ألّا ننسى أنّ الأردنّ «فتح أبوابه» واستقبل عشرات ألوف اللّاجئين السّوريّين، فلولا استيعاب المملكة الأردنيّة للّاجئين السّوريّين لكان هول الكارثة أكبر بكثير.. فلم يكن أمام السّوريّين الفارّين من هول المعارك سوى النّزوح إلى الأردنّ، ولم يكن أمام المملكة الأردنيّة مفرّ، أيضًا، سوى إيوائهم."
أوضاع اللّاجئين في المخيّم مأساويّة!الأوضاع داخل مخيّم الزّعتري صعبة جدًّا.. عائلات عديدة مكوّنة من عدد كبير من الأفراد تسكن خيمًا صغيرة، بالكاد يُمكنها أن تُؤويهم. أمّا فيما يتعلّق بالمأكل والمَشرب، فيؤكّد عدد من اللّاجئين أنّهم بالكاد يحصلون على وجبتين جاهزتين يوميّـًا، ومنذ أشهر عدّة لا يتمّ تزويد المخيّم بكميّات كافية من اللّحوم أو الدّجاج، فتقتصر الوجبات، أساسًا، على الأرزّ والقمح والبقول من فاصوليا وبِسِلّى (بازيلّا) وما شابه.
يفتقر المخيّم إلى الكهرَباء إلّا في حالات خاصّة. ورغم وجود الأطبّاء والمستشفيات، عدد كبير من المرضى لا يجدون العلاج الملائم داخل المخيّم، وعدد آخر ينتظر في الطابور لأزيد من 4 ساعات لزيارة الطّبيب!
دخلت المستشفيات الميدانيّة وشاهدت حالات تقشعرّ لها الأبدان!
وتابعت بدارنة حديثها قائلة: "في المخيّم يوجد قُرابة سبع مستشفيات ميدانيّة، تعمل على علاج عشرات ألوف اللّاجئين، وتقف على أحوال اللّاجئين الصّحّيّة.. ومن بين هذه المستشفيات: التّركيّ والسّعوديّ والإيرانيّ والبَحْرانيّ وغيرها.. إلّا أنّه حال دخولي هذه المستشفيات، فوجئت بحالات مرضيّة وإنسانيّة تقشعرّ لها الأبدان.

"!تنهّدت بدارنة، أخذت نفسًا عميقًا، وأجهشت بالبكاء.. وقالت باكية: "بصراحة – هناك حالات إنسانيّة تُبكي الحجر قبل البشر. فهؤلاء ضحايا معارك، ضحايا حرب، ضحايا تهجير، ضحايا نكبة.. وخصوصًا الأطفال الأبرياء منهم."
نقص في الإنسولين.. وانتظار لعمليّة جراحيّةومن بين الحالات المؤلمة – حدّثتني بدارنة قائلة -: "إحدى العجائز الّتي خطّ التّاريخ على وجهها قصّة معاناة وجدّ وكفاح، تعاني نقصًا في الموادّ الطّبّيّة، وخصوصًا مادّة الإنسولين.. تجلس حاملةً تاريخًا بأكمله وهمومًا أكبر.. تنتظر المساعدة."
وأضافت: "وعندما استفسرت عن حال طفلة ضُمّد جبينها بضمادة لُطّخت بالدّماء، قيل إنّها أصيبت بشظيّة قذيفة في رأسها، وهي بحاجة إلى عمليّة جراحيّة مُستعجلَة مُكلفة، وهي كذلك كباقي المنتظرين، تنتظر!".
وأعطي نصف عمري للّذي يجعل طفلًا باكيًا يضحك..
يصل مخيّم الزّعتري عدد كبير، نسبيّـًا، من المؤن والرّزم الّتي تحوي ملابس وبطّانيّات وموادّ أساس، من دول عدّة – عربيّة منها وأجنبيّة – إلّا أنّ هذا الكمّ الهائل من اللّاجئين الّذي كان يملك كلّ شيء تقريبًا، وأصبح بلا شيء، ينقصه الكثير.. بدءًا بالدّعم المادّيّ وانتهاءً بالدّعم المعنويّ والنفسانيّ. وعن توزيع أطقم الشّالات والقفّازات والقبّعات الصّوفيّة على بنات وأولاد المخيّم،
قالت بدارنة: "تدفّق وتهافت عدد كبير من الأطفال على السّيّارة المحمّلة برُزم الملابس الصّوفيّة؛ لهدف الحصول على الرّزمة وسط مُزاحمة كبرى.".. انهمرت دموع بدارنة من جديد، وهي تسترجع الذّكريات داخل المخيّم. ثمّ تابعت قائلة: "إنّ فرحة الأطفال والابتسامة الّتي ارتسمت على وجوههم أثّرت فيّ كثيرًا. يؤلمني أن أجد طفلًا باكيًا.. ويسعدني أنّي ساهمت – ولو بجزء ضئيل – في "تدفئة" عدد من الأطفال في ليلة شتاء باردة وماطرة."
أكثر ما أفتقده هو حضن والدتي الدّافىء.. لا قفّازات صوفيّة، ولا قبّعات!!لم يتهافت جميع الأطفال على السّيّارة المحمّلة برُزم القبّعات والشّالات والقفّازات الصّوفيّة، رغم حاجة الجميع إليها.. فقالت لي بدارنة: "لفتني جدًّا طفل جلس جانبًا، لم يحرّك ساكنًا، ولم يجتهد حتّى للحصول على أيّ رُزمة. دنوت من الطّفل، احتضنته، وسألته مُستغربة: ألا تنقصك – عزيزي – قفّازات أو قبّعة صوفيّة لتقيك من البرد القارس؟!..
نظر إليّ الطّفل بنظرة ثاقبة قائلًا: أنا لست بحاجة إلى قبّعات أو قفّازات تحميني من البرد القارس، أنا في أمسّ الحاجة إلى حضن أمّي الدّافئ الّذي كان يحميني من كلّ شيء، ومن البرد القارس، أيضًا!"
وأضافت بدارنة: "وعندما سألته عن مكان والدته، أجاب بكلّ غضب وحقد: لقد ماتت. قتلها بشّار الأسد!"وهنا أجهشت بدارنة بالبكاء مجدّدًا، وقالت: "أين العدل؟! فالطّفل أنس، الّذي لم يتعدّ السّنوات السّبع من عمره بعد، شاهد حيّ على مقتل والدته، شاهد على أبشع المجازر وعمليّات القتل.. والعالم يقف صامتًا."

من مُوسِرين إلى مُعدِمين..!- لا بدّ أنّ عشرات القصص الإنسانيّة المؤثّرة طُبعت في ذاكرتك؟..بدارنة: "طبعًا.. ولكنّي عدت مشحونة بطاقات إيجابيّة تؤهّلني للتّواصل مجدّدًا وتقديم مساعدات بقدْر المستطاع؛ وفي الوقت ذاته مُحبطة من تردّي الأوضاع الإنسانيّة والنّفسانيّة للّاجئين السّوريّين في المخيّم."واستطردت بدارنة قائلة: "اقترب منّي أحد الأطفال في المخيّم، قائلًا: لقد انقلبت حياتي رأسًا على عقِب.
كنت – كباقي الأطفال – أمارس حياةً طبيعيّة جدًّا في سورية.. أواظب على الدّراسة، ألعب مع أصدقائي، أمارس هواياتي، وأعزف على الپيانو.. كان هناك معنًى للحياة ولديّ أمل في المستقبل؛ أمّا اليوم، فحياتي لا تساوي شيئًا.. بدل أن أذهب إلى المدرسة، أمارس مَهمّة البيع داخل المخيّم، لإعالة أفراد عائلتي! كنت طفلًا مدلّلًا لا ينقصه شيء، واليوم، ينقصني كلّ شيء."!
يُذكر أنّ هناك مدرسة واحدة داخل مخيّم الزّعتري، تحمل اسم "مدرسة البحرين"؛ أغلقت، مؤخّرًا، عدّة مرّات، وتحوّلت إلى ملجأ يقي اللّاجئين من السّيول والفيضانات.
لم أذُق طعم السّكّريّات أو الحَلويات منذ مدّة طويلةوحدّثتني بدارنة قائلة: "بعد أن قمنا بتفعيل أطفال المخيّم وإشراكهم في عدّة ألعاب تفكيريّة وترفيهيّة، قمت بتوزيع السّكّريّات (الملبّس) على الأطفال.. فأتتني طفلة راجيةً أن أعطيها سكّريّة إضافيّة. ولكنّي لاحظت أنّ داخل فمها حبّتين من السّكّريّات.. فقلت لها: لا يمكنني أن أعطيك سكّريّة إضافيّة كَيْلا تختنقي..
فنظرت إليّ دامعةً وقالت: أعطيني سكّريّة إضافيّة، فأنا لم أذُق طعم الحَلويات أو السّكّريّات منذ مدّة طويلة".. تنهّدت بدارنة وقالت: "قد تبدو هذه القصص الصّغيرة تافهة للبعض، لكنّها مؤلمة ومؤثّرة."
عنفوان وعزّة وكبرياء..وفي المقابل – أكّدت لي بدارنة أنّ عددًا كبيرًا من اللّاجئين كذلك، لديه عزّة نفس وشموخ وكبرياء – وخصوصًا كبار السّنّ منهم – فيأبون الحصول على مساعدات كثيرة تصلهم، سوى المأكل والمشرب.. ينتظرون العودة إلى ديارهم.
أفضّل الموت على البقاء في مخيّم الزّعتري!تابعت بدارنة حديثها، والتّأثّر بادٍ عليها، قائلةً: "جاءَني راكضًا، طفل يدعى مُحمّد، لم يتعدّ العاشرة من عمره، وقف إلى جانبي وجانب الصِّحافيّين، نظر إلينا متردّدًا، فسألته: في فمك كلام، فماذا تريد أن تخبرنا؟.. نظر إلينا وقال بكلّ ثقة: أريد أن يعلم الجميع بأنّي أفضّل الموت على البقاء في مخيّم الزّعتري." سكتت بدارنة، سرحت وقالت: "أعتقد أنّ هذه الجملة تعني الكثير."
أتمنّى ألّا تمطر السّماء..!
وتذكّرت بدارنة السّيّدة الّتي كانت تدعو ربّها بألّا يجعل السّماء تُمطر..! فقالت: "لم أتوقّع، يومًا في حياتي، أن يكون هذا دعائي؛ فالأمطار مباركة وتجلب الخيرات، ولكن في المخيّم ستجلب الويلات..!! أخاف على أولادي وعلى أطفال المخيّم من أن يمسّهم البرد أو المرض من جرّاء الأمطار والسّيول."
– إذًا، لمست نقوصات عدّة في مخيّم الزّعتري..بدارنة: "طبعًا.. فالسّلطات الأردنيّة توفّر، أساسًا، المأكل والمشرَب.. ولكن عدد اللّاجئين في ازدياد، والأوضاع من سيّئ إلى أسوأ. «الحكي مِش زَيّ الشّوف» – تجد عائلات بأكملها تفترش الأرض، أو تجلس القرفصاء، لتناول الوجبات الغذائيّة «الضّئيلة» داخل صحون لدائنيّة (پلاستيكيّة)، كالمذلولين."
وأضافت: "لا يوجد مَن يفعّل الأطفال ويرفّه عنهم.. فعدد كبير منهم بحاجة إلى أطبّاء نفسانيّين.. فالاهتمامات اليوميّة أصبحت تقتصر على تأمين المأكل والمَشرب، فقط.. ينقص اللّاجئين التّضامن والعطف والحنان والوقوف إلى جانبهم ومؤازرتهم معنويّـًا ونفسانيّـًا، أيضًا. هناك نقوصات عدّة، وخصوصًا البطّانيّات والملابس ووسائل التّدفئة، في هذه الأيّام القارسة."
– فَلْنَكُن صريحين.. ما كان هدفك من وراء زيارة مخيّم الزّعتري؟ابتسمت.. وقالت: "هدفي الأساس إنسانيّ بحت. جئت حاملة رسالةً ومَهمّة إنسانيّة.."
قاطعتها، مستفزًّا، سائلًا: ألا تعبّر زيارتك للمخيّم عن موقف سياسيّ؟! فالرّسالة واضحة!
لِمَ لم تزوري مخيّمات فِلَسطينيّة في عمّان، كمخيّم الوَحدات، مثلًا، فهناك حالات إنسانيّة بحاجة لتسليط الضّوء عليها، أيضًا؟!بدارنة: "كلامك صحيح. هناك رسالة من وراء زيارتي. أنا لا أخفي معارضتي لممارسات بشّار الأسد وللظّلم اللّاحق بالسّوريّين.. وأنا أدعم اللّاجئين السّوريّين وأقف إلى جانبهم، فهم ضحايا النّظام. هذه لن تكون زيارتي الأخيرة للمخيّم، فستليها زيارات عدّة لهدف الدّعم والمؤازرة والمساعدة."
– قد يُعتبر سؤالي "أنانيّـًا"؛ ألا تعتقدين أنّ الفِلَسطينيّين – أبناء شعبك – أحقّ بهذا الدّعم والمؤازرة؟بدارنة: "لا فرق لديّ بين طفل سوريّ أو فِلَسطينيّ. دائمًا عملت من أجل فِلَسطين، ولم أقصّر. حان الوقت للعمل من أجل باقي الأطفال الّتي تعيش معاناة ونكبة.. مخيّم الزّعتري آلمني وشدّني كثيرًا، وما أعطيه لأطفال هذا المخيّم كأنّي أعطيه لأطفال فِلَسطين وأكثر..
لمست في المخيّم معنى التّهجير والبؤس والضّياع.. يكفيني أن أرى طفلًا لم يتعدّ الخامسة من عمره يجلس منزويًا يراقبني من بعيد، وتعابير وجهه تحكي الكثير وتعيش خلالها نكبته ونكبة شعبه." وراء كلّ لاجىء – كبيرًا كان أو صغيرًا – قصّة مأساويّة!
تعدّدت الحكايات والقصص، وطال الحديث مع سهير بدارنة، الّتي كانت تتأثّر من جديد كلّما روت حكاية عن أحد اللّاجئين.. الأوضاع في سورية، اليوم، مُقلقة جدًّا ومُزرية. أطفال يُقصفون وهم على مقاعدهم الدّراسيّة؛ أمّهات يُقتَلن على مرأًى من أطفالهنّ؛ مجازر ومقابر جماعيّة؛ فوضى عارمة ودمار؛ أطفال مشرّدون ومفقودون؛ هروب وتهجير ونزوح؛ نكبة.. ووراء كلّ لاجئ يصل المخيّم قصّة مأساويّة!

– ولكن أنت تعلمين بأنّ للإعلام دورًا كبيرًا في تهويل الأمور ونقل الصّورة وفق "سياسة" مسيّرة. فهناك تضليل للأمور، أيضًا..بدارنة: "اُؤكّد لك أنّ الأطفال صادقون، لا يكذبون. غالبيّة جلساتي كانت مع الأطفال. وأبشع وأفظع القصص عن النّظام سمعتها من الأطفال. كان الأطفال يُنشدون للحرّيّة ويلعنون ويشتمون بشّار الأسد ونظامه. وعندما علموا أنّنا من فِلَسطين بدأوا يُنشدون لفِلَسطين ولأطفال فِلَسطين.."
يريدون العودة- هل ينوي اللّاجئون البقاء أم العودة؟ بدارنة: "هناك مَن رفض البيوت المتنقّلة الممنوحة من السّعوديّة، وفضّلوا البقاء داخل الخيم خوفًا من التّوطين.. فضّلوا البقاء في الخيمة لحين العودة. حدّثتني امرأة كَهْلَة من المخيّم عن إحساس يراودها، بأنّ السّلطات الأردنيّة ستحوّل مخيّم الزّعتري إلى مخيّم دائم.. وتتساءَل: ما الهدف من وراء تعبيد الشّوارع، مؤخّرًا، والعمل على إيصال الكهرَباء والماء إلى المخيّم..؟! نريد العودة، نفضّل العودة على البقاء."
– ماذا فعلت بك هذه الحملة؟
بدارنة: "هذه الحملة أكّدت لي أن لا عدالة في هذا العالم. أمور الأطفال تعنيني جدًّا.. على المجتمع الدّوليّ أن يصحو وأن يهبّ لنجدة ونصرة هؤلاء الأطفال الأبرياء، الضّحايا. وفي الوقت ذاته ملأتني طاقات إيجابيّة للمُضيّ قُدمًا والاستمرار في التّطوّع والدّعم والعطاء."
– هل تمّ التّحقيق معك من قبل السّلطات، قبل أو بعد زيارتك مخيّم الزّعتري؟بدارنة: "تمّ التّحقيق معي من قبل السّلطات الأردنيّة، ولكنّ التّحقيق كان عاديّـًا جدًّا، لم يتطرّقوا إلى تفاصيل الزّيارة."
– كلمة أخيرة..بدارنة: "أنا راضية كلّ الرّضى عمّا قمت به، وضميري مرتاح. سأستمرّ مع الحركات الشّبابيّة في التّواصل مع لاجئي المخيّم، لتقديم الدّعم والمساعدة، على أمل أن تلقى الحملات القادمة رواجًا أكبر.. وعلى أمل أن تبقى صحيفة "حيفا" حريصة على تغطية الأحداث ومواكبتها، بكلّ مصداقيّة ومِهْنيّة، وبأسلوب مميّز، كما عوّدتنا دائمًا."
في كلتا الحالتين، ومن دون أن نجزم، سواء أكان نظام بشّار الأسد مسؤولًا مباشرًا عن هذه المجازر بحقّ أبناء شعبه، أم الثّوّار والجيش السّوريّ الحرّ ودول الإمبرياليّة، فنحن أمام حالات إنسانيّة مأساويّة، نشهد مأساة تشريد وقتل شعب..
ونحن مَن عاش مأساة النّكبة – وما زال – واجبنا الإنسانيّ والأخلاقيّ يحتّم علينا التّعاطف – إنسانيّـًا على الأقلّ – مع أولئك الّذين يعيشون اليوم نكبة. قد تكون من جرّاء تعنّت وديكتاتوريّة وظلم واستبداد نظام متخلّف فاسد، أو من جرّاء تدخّل خارجيّ إجراميّ وقح.. ولكن ما ذنب هؤلاء؟!!
إنّ مَن يسكن مخيّم الزّعتري بشر كباقي البشر، لا مجرّد أعداد تُضاف إلى قائمة المنكوبين والمهجّرين. شعب كان يعيش حياة عاديّة، فتحوّل، بين ليلة وضحاها، إلى لاجئ ومشتّت.. وللتّذكير لا للمقارنة، نحن – أبناء الشّعب الفِلَسطينيّ – ما زلنا نعيش ونعاني تداعيات نكبتنا، وشعبنا ما زال مشتّتًا.. فأين نحن ممّا يحدث، وأين المجتمع الدّولي؟!!
.jpg)




