ذاكرة حيفا على بحيرة متجمدة- الكاتب سلمان ناطور

مراسل حيفا نت | 06/04/2009

  حيفا لا تعرف الثلج ولا تعرف الموسيقى الهادئة.

يندر أن يملأ الثلج حيزا من ذاكرتها، ولأن موسيقاها صاخبة، صخب الحياة، يندر أن يحضر فيها "موتسارت" سوى بحضور  مطعم عربي جميل على شارع الخمر والعشق، شارع أبي نواس.

اختارت كاترين، مضيفتنا السنغالية الجميلة من معهد العدالة التاريخية  أن نلتقي في قصر باروكي في مدينة سالزبورغ غربي النمسا، لنستعيد ذاكرة حيفا.

 منتصف شباط .

هنا، في حيفا، كنا ننتظر عاصفة حذرتنا منها الأرصاد الجوية.

 (نسميها عاصفة إذا أبرقت وأرعدت ونزل مطر فوق معدله السنوي.)

 نحن هنا نحب العاصفة لأنها لا تؤذي وهي في الغالب تحضر مطرا غزيرا بعد خريف قاحل وجاف، فأهلا وسهلا بالعواصف غير العاصفة، واعذرينا، أيتها العاصفة القادمة، على غيابنا لأننا سنذهب إلى مدينة الموسيقى الهادئة والثلوج التي تتساقط بهدوء  وتتراقص على أنغام موتسارت المولود هناك في بيت قديم في قلب المدينة.

كل ما تراه العين أبيض على الطريق من فيينا إلى سالزبورغ.

 الثلج يغطي السهول والقمم العالية ولا يصمد على فروع الأشجار العارية.

ألمدينة الصغيرة تبدو بلا أفق ولا سماء.

 خلفها سلسلة جبال عالية يكسوها الثلج وسماؤها غائمة والثلج لا يتوقف عن السقوط.

 سائق التاكسي التركي لم يفهم من لغونا العربي سوى "السلام عليكم" ولا يفهم الانجليزية.

 اتصل بزميل له يجيد العربية وصرنا نتبادل الحديث عبره مع جهاز خليوي مفتوح.

 لم تنبعث من مسجله موسيقى تركية بل سمفونية لموتسارت، معروفة حتى لمتذوق أمي مثلي يصغي إلى الموسيقى الكلاسيكية كخلفية لوقائع الحياة.

يبدو أن في بلد موتسارت لا يصغون إلا  لموسيقاه، هكذا في محطة القطار وفي صالة الفندق، تماما كما أن الشوكولاته هي موتسارت وعلى الملابس وكل الهدايا التي تصنعها البلد وحتى الولاعة أو القداحة موتسارتية وتباع في حانوت عند مدخل البيت الذي ولد فيه.

كيف يمكن أن تقضي أربعة أيام في سالزبورغ دون أن تزور هذا البيت؟

الثلج وذاكرة حيفا هما اللذان أخّرا الزيارة إلى اليوم الرابع.

القصر الذي جمعنا  والقائم منذ القرن الثامن عشر، ليس مجرد مكان جميل ويشي بالعظمة.

 الرّخام والخشب الخمري واللوحات الكبيرة على الجدران وسقوف الغرف الملونة والصالات الكبيرة تنقلك إلى تاريخ ليس لك والى عالم لا تتوق إليه.

 انه يستفز زائرا مثلي جاء من بلد التقشف والقتال على الخبز فيسأل السؤال الساذج، أو ربما سؤال المحرومين: لماذا لا يكتبون على جدران القصر كم من عامل اشتغل في بنائه وكم منهم قتل أو جرح ومن أين المال لصاحبه الإقطاعي؟

مثل هذا السؤال يبدو ساذجا أو ربما خبيثا في قاعة المرمر التي تناولنا فيها عشاءنا وحضرت حيفا في حكايات "أبو العبد" العربجي الذي كان يقطع شوارعها على حنطوره من حارة الكنائس وحتى وادي الجمال.

القصر القائم منذ القرن الثامن عشر يقع على ضفة بحيرة تجمد سطحها وتراكم عليها الثلج فبدت ساحة كبيرة لا الشجر العاري يخرق استواءها ولا عمارات قديمة أو حديثة، فشدت اليها صديقينا محمود يزبك ومصطفى كبها ليسيرا عليها كأنهما يسيران على أرض مرج ابن عامر وهما لا يدركان أن تحت أقدامهما ماءا وحياة وسمكا تحت الجليد ولا يسمع خبطات الأقدام وقد يذهله، مثلما أذهلنا،  لو يدرك أن رجلين صحراويين يمشيان على ثلج البحيرة كما لو كانا يمشيان على الرمل.

ذاكرة حيفا حضرت في القصر وكانت حكايات جيل يبحث في الكتب المفقودة وينبش في ما بقي من ذاكرات الناس الذين عاشوا في تلك الأيام ومنهم من بقي في وادي النسناس ومنهم من تفرق أيدي الحليصة ووادي رشميا وشارع الجبل.

 أربعة أيام متواصلة لم تترك فسحة للتزلج على جليد الجبال ولا زيارة القلعة المطلة على سالزبورغ وتحفظ ذاكرتها كما يليق بمدينة عريقة ارتبطت بالموسيقى منذ أخذ موتسارت، الطفل ابن السنوات الثلاث، عبقرية والده الموسيقية .

 ليس غريبا على هذه الطبيعة أن تنجب العباقرة .

 للموهوبين في هذا الفضاء متسع للتأمل كي يصبحوا عباقرة.

هذا هو كل ما بيننا وبينهم، متسع للتأمل، ويعني مساحة لا محدودة من الحرية.

 مساحة تمتد كامتداد سلسلة الجبال المتجهة إلى أفق بعيد، فيكتب من يكتب بحرية ويعزف من يعزف بحرية، وبحرية يضع الفنان على طاولته كل أسئلة الخلق والخليقة.

هكذا كانت حيفا على طاولتنا في الصالة الكبرى.

 صارت مكانا قابلا للتفكيك.

 صارت رزمة من الذكريات والحكايات، لكل منها معانيها واستعاراتها، وفي لحظة انقشاع خيل لي أنها تحولت إلى بحيرة متجمدة يذوب عنها الجليد شيئا فشيئا ليظهر ما في باطنها من حياة أو لتعود إليها حياتها في فضاء بلا حدود ولا قيود.

في هذا المشهد الدرامي علت حكاية الفلسطيني الغائب عن حيفا؛ عباس شبلاق.

كان في الخامسة من عمره عندما حملته سيارة سوداء من بيته في وادي الصليب مع والدته التي حملت معها ماكنة الخياطة ووالده الذي حمل صندوقا خشبيا فيه مفتاح البيت وأوراق عائلية مهمة، ومنها إلى نابلس واللبن الشرقية وامتد الترحال إلى سوريا ولبنان وتونس والجزائر، إلى كل مكان  إلا  إلى حيفا.

لندن صارت محطته الأخيرة ، ومنها عاد بعد غياب دام أكثر من أربعين عاما ليتفقد البيت، فوجده قائما كما تركه وفي الطابق الأرضي تسكن عجوز ما زالت تحتفظ بأثاث البيت .

 قالت له "سارة" التي تذكرت عائلته: هذا الأثاث لكم، أحتفظ به، اذا شئت فيمكنك أن تأخذه.

 لم تقل له هذا البيت لك.

فقط ما كان في البيت من أثاث وأغراض لم تقدر على حملها والدته عند الرحيل.

 على أحد الجدران علقت سارة صورة ابنها الجندي وابنتها .

 "سأحكي لهما عن لقائنا"

 قالت سارة وقدمت له القهوة العربية.

بعد عام ماتت سارة.

أعادني بيت عباس شبلاق في شارع البرج إلى بيت شاعرنا عبد الكريم الكرمي (أبي سلمى) في شارع البساتين بحي الألمانية.

طلب مني عندما التقينا في صوفيا أن أزور البيت.

ذهبت.

 كانت تسكنه امرأة من أصل روماني.

 قالت إن عائلة بولونية سكنته من قبل ولم يقل لها أحد إنه كان بيتا لشاعر كبير هجرّ منه مبحرا على قارب وهو يحمل مفتاح البيت ومجموعة قصائد بخط اليد.

سقطت المجموعة في البحر وظل المفتاح.

بعد عام مات أبو سلمى.

جلس عباس شبلاق بيننا في الصالة الكبرى من القصر يستعيد ما علق في ذاكرته من حيفا قبل أن يعرف المنافي طفلا في الخامسة، وصرنا نحكي له ما حل بمدينته بعد غيابه عنها.

كانت الخواطر والحكايات تتوارد سمفونية السرد، هادئة أحيانا إلى حدود الصمت ومتوترة في أحيان أخرى إلى درجة الصخب.

الثلج الذي تراكم على سطح البحيرة المتجمدة وفي الحديقة استحضر "سنة الثلجة" في حيفا.

حيفا 1950

 عام 1950 عرفت حيفا ما لم تعرفه في حياتها، لا قبل هذا ولا بعده، وصل ارتفاع الثلج إلى أكثر من متر والجرافات التي كانت تهدم بيوت حيفا العربية تعطلت لأيام معدودة لكي تجرف الثلوج التي تراكمت على الشوارع.

أعادتنا حكايات عباس شبلاق عن بيته الواقع على الحد الفاصل بين وادي الصليب والهدار إلى أيام حيفا الجميلة، إلى لياليها وسهراتها الصيفية والى صحفها وكتابها وشعرائها والى نواديها ومقاهيها، يوم كانت مدينة صيف وسهر وقبل أن تتبدل أسماء شوارعها وأحيائها ويصير شارع البرج "شارع التحرير" ، أي تحريره من عباس شبلاق ابن الخامسة ومن أمه التي كانت تطرب كثيرا  على لحن "مرمر زماني يا زماني مرمر".

عباس صار اسما حيفاويا كلله حبيبنا القادم من لندن بحكايته، مثلما تكلل المدينة قبة عباس الذهبية على منحدر الكرمل وشارع عباس الذي لا يزال يحتفظ باسمه.

أحب هذا الاسم الحيفاوي الكرملي ولا أعرف لماذا يأخذني إلى بغداد وإلى ألف ليلة وليلة في شطحات حنينية إلى أدب منفلت القيود والرقابة والى موسيقى تنساب كانسياب دجلة وبردة. يعيدني ذكر شارع عباس  إلى بيت اميل توما الذي كنا نجلس على شرفته مع كأس من نبيذ أحمر ونطل على المدينة تستقبل السفن القادمة من الغرب ونراجع تاريخا قلما تجده في بطون الكتب.

يعيدني إلى علي عاشور الكاتب الذي كان يخبيء خلف ملامح وجه حزين سخرية لاذعة وقد فارق الحياة في منفى آخر، في براغ، بعيدا عن غزة ،وطنه الأول، وبعيدا عن بيته في شارع عباس.

أعادني عباسنا القادم من لندن إلى عباس زين الدين الشيوعي الطيب (لا يزال يناضل) الذي دلني على جريدة "الاتحاد" يوم كنت يافعا أتسلى على حكايات "علي بابا والسندباد" ولا أعرف أنها من ألف ليلة وليلة وعلى أفلام الحرب على الهنود الحمر، فأدركت من الجريدة أن أمريكا "رأس الأفعى".

 في قصر على بحيرة متجمدة عدت إلى حكاية عباس الفران الذي انتظر على رصيف شارع يافا عودة أهله من لبنان  ومات وهو يبيع الخبز.

حدثت صديقنا القادم من مدينة الصخب والضباب عن الشيخ عباس الذي كان يحلم بإسقاط الطائرات البريطانية وأكله الضبع لأنه فقد الذاكرة – كما قال أهل بلدنا- ضحكنا على خفة ظله وحزنا على مصيره.

إنه  كرملي كان يجوب شوارع بلدنا على حماره الأبيض وعلى خاصرته تتراقص رزمة المفاتيح، مفاتيح طائراتنا العربية كما كان يقول عندما نسأله: ما هذه المفاتيح يا شيخ عباس؟

لم يتوقف تساقط الثلج على مدينة سالزبورغ عندما حملنا حقائبنا وابتعدنا عن البحيرة المتجمدة لنركب الطائرة.

عبر شباك الطائرة الصغير تنظر إلى فوق فترى سماء زرقاء صافية وشمسا مشعة، وتنظر إلى تحت فلا ترى إلا  الغيوم البيضاء تحجب الأراضي الواسعة التي يغطيها الثلج كتلك البحيرة المتجمدة.

عندما يذوب الثلج تعود الحياة من جديد إلى الأرض.

يعود إلى أشجارها ورقها الأخضر.

تعود إليها عصافيرها التي لا تحتمل البرد.

يخرج الفلاحون من بيوتهم ليحرثوا ويزرعوا.

على أرصفة المدن يجلس العشاق في المقاهي ، في سالزبورغ على أنغام موتسارت وفي حيفا تصدح الفيروزيات من مقهى "فتوش" على شارع الحب والخمر، شارع أبي نواس، لتبدأ من هناك رحلة جديدة في ذاكرة حيفا.

   

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *