أبو عايدة: الإرادة الصلبة التي عجز الأعداء عن تهشيمها- جورج كرزم حيفا

مراسل حيفا نت | 05/04/2009

 

لم يكن داود تركي (أبو عايدة) رجلا عاديا.  بل كان من صنف الرجال الذين تحلوا بصفات خاصة لا يمتلكها من استكان للعجز والهلع من مواصلة طريق النضال.  ومن هذه الصفات:  القوة الروحية التي لا تنضب والإرادة الصلبة التي يعجز الأعداء عن تهشيمها، وقدرة غير محدودة على التضحية ونكران الذات.  هكذا كان أبو عايدة، قبل سجنه، وأثناء وجوده في السجن، وإثر تحرره من السجن، مع سائر رفاقه، في عملية تبادل الأسرى المشهورة في أيار عام 1985.  

وطيلة عمله الكفاحي، لم يطلب أبو عايدة الشهرة ولا المال، ولم يلهث، كما فعل الكثيرون، وراء الاستعراض الإعلامي والتلفزيوني، كما لم يركض خلف المؤسسات الفلسطينية والعربية المتخمة فسادا ونفاقا، ولم يتعَيَّش على فتات الموائد الخليجية والأميركية، بل كان يعمل وينشط بهدوء وصمت، مرتكزا إلى قناعات ومبادئ وطنية راسخة، وعقيدة ثورية لا تلين ولا تساوم، ومعتمدا على وعي معرفي واسع بقضايا شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية.  وقد تحلى أبو عايدة بذاكرة تاريخية نفاذة عميقة وقوية قل نظيرها، فكان ينهل منها، عن ظهر قلب، أدق معطيات وتفاصيل تاريخنا وتراثنا الوطني القديم والحديث، في فلسطين وسائر أنحاء الوطن العربي.

ومنذ إطلاق سراحنا من السجن، كنت أواظب على مهاتفته أو زيارته  في منزله، في فترات متقاربة، فنتبادل الحديث في قضايا فكرية واجتماعية وسياسية وتاريخية.  وكانت زيارتي الأخيرة له قبل وفاته بأسبوعين، أي وهو في الثاني والثمانين من عمره.  وكان قد مر على إطلاق سراحه من السجن أربعة وعشرون عاما، وتفاقمت الأمراض المتراكمة في جسمه منذ فترة السجن، والتي تسببت في بتر ساقيه وحولته إلى مقعد، ونَهَشَ المرض في أعضائه الجسمية دون رحمة، وتعالت أناته وآهاته من الآلام والأوجاع.  لكن، بالرغم من هذا المشهد الإنساني المأساوي، ظل أبو عايدة متحليا بالروح المعنوية العالية وبتفاؤل الثوار بحتمية تحرير الأرض والإنسان العربيين.

لقد عرفت أبا عايدة معرفة شخصية عميقة في سجن الرملة في الفترة بين 1979 – 1985.  كان مناضلا متسلحا بالوعي النظري والثوري والقناعة الصلبة الراسخة بصحة الطريق الثوري الذي سلكه، وبالتالي كان وعيه بمثابة الغذاء الفكري والروحي الذي تزود منه، ليعمق صموده في السجن ويزيد من مناعته الثورية وصلابته في مواجهة السجن والسجان والجلادين في زنازين التحقيق، مما ساعده حتما على تعميق وعيه الثوري وتجربته النضالية، للعلو بهما إلى مراحل أرقى، فتحول إلى شاعر متمرد خارج عن المألوف الفكري – الاجتماعي – السياسي الذي رسمه المستكينون والعاجزون، الأمر الذي أغنى التراث النضالي للحركة الأسيرة، وجعل تراثه الفكري والسياسي، وتجربته الحياتية والنضالية الغنية مدرسة لا بد من الاستنارة منها. 

كنت أنا وأبو عايدة من بين 1150 سجينا فلسطينيا وعربيا، أطلق سراحهم في عملية تبادل الأسرى، في 20 أيار 1985، بين الجبهة الشعبية – القيادة العامة و"إسرائيل"، وقد اختار كلانا العودة إلى بيوتنا في حيفا.  ويقول أبو عايدة بهذا الخصوص:  "لم أندم على شيء، لأن الندم في نظري كان أسوأ من السجن، وحاول التلفزيون المرة تلو الأخرى أن يحصل على تصريح ندم مني.  لم يكن هناك شيء أندم عليه، إنني فخور بما قمت به، ولو كنت في صحة جيدة لعاودت الكرة مرة أخرى".

وفي أعقاب إطلاق سراحه، لم يسمح أبو عايدة للتناقضات المحيطة به أن تجرفه نحو الاندماج في فساد المجتمع والركض الشره وراء كسب المال والمغريات المادية.  بل إن أكثر ما كان يؤلمه، وهذا ما برز في العديد من قصائده، هو رؤيته الإمعات الفلسطينية والعربية وهي تنكر المعرفة وتهدم الذاكرة الوطنية، باسم الواقعية السياسية المريضة.  بل أخذت تلك الإمعات تشن هجوما مضادا شرسا على أهداف النضال والثورة وعلى الحقوق التاريخية والوطنية لشعبنا في أرض وطنه، وعلى المتشبثين بهذه الأهداف والحقوق، ناعتة إياهم بالمتطرفين والمغامرين والمزايدين، بل وصل بها الأمر إلى تبني مواقف الصهاينة، فوصفت النضال الثوري بـِ "الإرهاب" وتعهدت لهم وللغرب الاستعماري بملاحقة "الإرهاب" و"الارهابيين".

يعد أبو عايدة قوميا اشتراكيا، ويرى بأن الفلسطينيين "لا يستطيعون تحرير فلسطين بقواهم الذاتية فقط، لأنه يقف في مواجهتهم ليس دولة إسرائيل فقط بل الولايات المتحدة وأوروبا أيضا.  فقط وطن عربي موحد يستطيع أن يواجه بنجاح الولايات المتحدة وأوروبا.  وما دام الوطن العربي منقسما إلى دول، فسيستمر زعماء هذه الدول في محاربة بعضهم البعض، والقوى الأجنبية تستفيد من هذا التفكك، وعلى الفلسطينيين أن يقوموا بواجبهم الكفاحي من أجل توحيد الوطن العربي".  فالمعركة من أجل تحرير فلسطين، كما يقول أبو عايدة، "يجب أن تكون جزءا من المعركة من أجل توحيد الوطن العربي وتحريره من الحكم الأجنبي".

إني أرى في تراث أبي عايدة ونهجه الفكريين والشعريين مرجعا هاما لشحن الناس المستضعفين والمقهورين على التمرد والثورة ضد الظلم والاضطهاد والفساد والاحتلال، ولتحليل المحطات التاريخية والسياسية المفصلية في أرضنا المحتلة منذ عام 1948 بخاصة، وفي الوطن العربي بعامة.  وهذا التراث، وهذا النهج، بما احتوياه من مضامين قومية وطبقية ثورية وحقائق فكرية وسياسية وتاريخية هامة، جديران بأن يَسترشد بهما الوطنيون والسياسيون الباحثون عن، والعاملون على، بناء مستقبل وطني أكثر إشراقا من الواقع البائس والمخجل الذي نعيشه حاليا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *