صورة توضيحية
مطانس فرح
وعدتها، وعدت وأكّدت لها عشرات المرّات، بأنّي لم ولن أكشف أيّ معلومة يمكن بها الاستدلال عليها أو التعرّف بها.. لقد اكتنف الغموض والقلق والتوتّر اللقاء، وأصرّت عبير (اسم مستعار، طبعًا) أن ألقاها في أحد مقاهي تل – أبيب، بعيدًا عن حيفا.. "بين كلّ شيء، وبعيدًا عن كلّ شيء" – كما قالت لي.
جلست أمامي سيّدة في بداية عقدها الرّابع، سبقت عمرها بسنوات، فبدت مُسنّة هرمة. نحيفة جدًّا، شاحبة، هزيلة، بالكاد تقوى على الحركة والكلام، وقد بدا المرض واضحًا عليها…!
فرّت عبير من بيت والدها وهي لم تتعدَّ السابعة عشرة من عمرها بعد، حيث لم تعُد تحتمل الضرب المُبرّح والإهانة والكبت؛ فلسنوات عديدة كانت مُعنَّفة تهاب الشكوى. سكتت طويلًا وتحمّلت عذاب النّفس ولم تبُح بذلك لأحد خوفًا من والدها، ولم تشتكِه للشّرطة أو لمستشارة المدرسة أو للعامل الاجتماعيّ، مُعتقدةً أنّ ذلك مُعيب ويجب أن يبقى "السّرّ" داخل جدران المنزل، لكنّ الضرب المُبرّح والإهانة دفعا بها – بين عشيّة وضحاها – إلى ترك ذلك المنزل..!
نظرت إليّ بعينين غائرتين ذابلتين دامعتين، وقالت: "أدعو اللّه، يوميّـًا، ألّا يغفر له، لأنّه هو السّبب.."!! سكتت هُنيهة، تنهّدت، ارتشفت جرعةً من الشّاي، وتابعت قائلة: "إنّ التّعنيف النفسانيّ أصعب بكثير من التّعنيف الجسّدي، لم أشعر بقيمة الإنسان في بيت والدي.. عشت "وحيدة" بين أفراد عائلتي، وحيدة وسْط أشقّائي وزوجة والدي، من دون أصدقاء أو أقرباء يسألون عنّي".
تنهّدت مجدّدًا، وقالت: "اضطررت إلى الهرب من السّجن الّذي كنت محبوسة فيه، فلم أعُد أحتمل بعد… لم ألتجئ إلى أحد، وقرّرت أن أعتمد على نفسي، لكنّي – للأسف – لم أكن مؤهّلة لذلك على ما يبدو. فوجدت أنّ معاشرة الرّجال طريقي الأسرع و"الأسهل" للحصول على المال. دخلت عالمًا طالما احتقرته، ومارست مهنة مُعيبة مُهينة مُذلّة، لا تقلّ إهانتها عن الإهانة الّتي عشتها في منزل والدي؛ لكنّ توافر الأموال والشّعور بالـ"الحرّيّة" والإمتاع، دفعاني للمُضيّ في ذلك. وأقولها لك بصراحة، أحيانًا كانت تدفعني شهوتي الجنسيّة لذلك أيضًا، ولكن..".
صمتت، نظرت إليّ، بكت بحُرقة، ثمّ طأطأت رأسها، وأكملت قائلة: «بعد أزيَد من ثلاث سنوات بقليل على ممارستي مهنة الدّعارة (قبل نحو عشرين سنة)، ومن جرّاء إحدى علاقاتي الجنسيّة حملت. فذهبت إلى طبيب النساء كي أُسقِط الحمل، ولكنّه عندما أجرى لي الفحوصات الطبّيّة الضروريّة اللّازمة، علمت أنّي لا أحمل جنينًا، فقط، بل أحمل ڤيروس متلازمة العَوْز المناعيّ المكتسَب (ڤيروس الـ"إيدز" – "إتش.آي.ڤي.")"!
مُجدّدًا، لم تقوَ على الكلام.. تنهّدت، أخذت نفسًا عميقًا، وصمتت فترةً وجيزة.. صمتها كان مُعبّرًا.. كان "قاتلًا"..!!
اضطرّت عبير إلى إجراء عمليّة إجهاض للتخلّص من الجنين، لتعيش بعدها سنوات من الجحيم؛ حيث انقلبت حياتها رأسًا على عقب، فتنقّلت من مكان إلى آخر، ومن عيادة إلى أخرى، ومن طبيب نفسانيّ إلى آخر. فقدت كلّ ما تملك، فقدت أهمّ ما تملك!
تتعالج، اليوم، في أحد المستشفيات في مركَز البلاد، وتصارع من أجل البقاء؛ فوضعها الصحّيّ لا يبشّر بالخير أبدًا.. وعن ذلك قالت: "إنّ أشهري معدودة، فالأدوية لم تسعفني كثيرًا، أمدّت بعمري سنوات قليلة، فقط؛ عشت وحيدة.. وسأموت وحيدة"؛ ثمّ أجهشت بالبكاء.
طَوال الساعة الّتي جلسَت فيها قُبالتي، لم أستطِع أن أبلور موقفًا محدّدًا، أأصنّفها كضحيّة تعنيف من قبل والدها أم مجرمة بحقّ نفسها؟!.. لكنّ وضعها الصحّيّ وحالتها النفسانيّة يُؤثّران في الحجر، فكم بالحريّ بالبشر..!
وتزامنًا مع اليوم العالميّ لمناهضة العنف ضدّ المرأة (11/25)، ويوم (الـ"إيدز") العالميّ (12/1)، أنهت عبير حديثها المقتضب جدًّا، برسالة تحذّر من خلالها وتوعّي، قائلة: "لقد أخطأت وخَطِئت كثيرًا في حياتي، وها أنا أدفع ثمن خطأِي وخطيئتي. كان من المفترض ألّا أصمت منذ اللّحظة الأولى الّتي عُنّفت فيها، وألّا أختار مهنة الدّعارة..
ولكلّ فتاة وشابّ أقول: يجب عدم السّكوت على التّعنيف أبدًا، حتّى إذا كان المُعنِّف هو الوالد أو الأخ أو الصّديق أو الحبيب، حيث لا يحقّ لأيّ كان إهانتك أو إذلالك؛ فهناك مؤسّسات وجمعيّات وعناوين كثيرة يمكن اللّجوء إليها للمساعدة.. وطبعًا، أحذّر جدًّا من ممارسة الجنس من دون أخذ الحِيطة والحذر، وأقلّ ما في الأمر استعمال الواقي الذّكريّ (الـ«كوندوم»)؛ فالحياة أثمن بكثير من مجرّد شهوة أو هفوة جنسيّة.. فها أنا أدفع، اليوم، ثمن غبائي وصمتي وتهوّري!".