د. مطانس شحادة، باحث في مركز مدى الكرمل
خرج الفلسطينيّون في إسرائيل في أكتوبر 2000 للتّعبير عن موقف سياسيّ قوميّ رافض السياسة الإسرائيليّة تجاه الشّعب الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة والقتل والدمار والاحتلال، ورافض الفصل بين فئات الشّعب الفلسطينيّ على شَطرَي الخطّ الأخضر.
وبذلك تعكس هبّة أكتوبر تغيير في هُويّة الفلسطينيّين في الداخل، رؤيتنا لذاتنا ولعلاقتنا بدولة إسرائيل.
كان من المتوقّع أن تتحوّل ذكرى هبّة أكتوبر إلى حدث مؤسّس في الوعيّ الفِلَسطينيّ الجمَعي في الدّاخل، وإلى علامة فاصلة في الممارسة السياسيّة والمطالب، وأن تخلّد ذكرى الهبّة والشّهداء والجَرحى بشكل سنويّ، دون نقاشات ومناكفات حزبيّة، وأن يتمّ إعلان ذكرى هبّة أكتوبر يوم إضراب (دون الحاجة لإقراره في كلّ عام)، دون اعتبارات النجاعة والرّبح والخسارة، لا السياسيّة ولا الاقتصاديّة.
على أرض الواقع لم يحدث ذلك، بل أنّنا نشهد – لأسباب عديدة – تآكل ما في إحياء ذكرى هبّة أكتوبر على مدار السّنوات الأخيرة، ربما أصعبها هذا العام!
إذ جاءت ذكرى هبّة أكتوبر هذا العام بنكهة مختلفة عن السّنوات السابقة، متأثّرة من بيئة سياسيّة مُحبطة ومُثقلة بالهموم، داخليًا وفِلَسطينيًا وإقليميًا. فمثلاً، أبرز سمات القضيّة الفلسطينيّة في الفترة الرّاهنة هي المساعي لإنعاش وإحياء اصطناعيّ للسّلطة الفِلَسطينيّة بأوكسجين
المساعدات الإسرائيليّة لمنع انهيارها، وفشل – إن لم نقل تنازل – القيادات الفلسطينيّة عن وضع تصوّر لإعادة توحيد «القضايا الفلسطينيّة» وإرجاعها إلى القضيّة الأم الأصليّة كقضيّة تحرّر وطني وقضيّة حق تقرير المصير.
وها هي الثّورات العربيّة عامّةً، والحالة السّوريّة خاصّةً، تربك العالم العربيّ وتفتّته وتحقّق ما فشلت في تحقيقه الحروب الإسرائيليّة والأمريكيّة في المِنطقة. وهي، أيضًا، تُربك وتقسّم الفِلَسطينيّين في الدّاخل، وتضيف عوامل تجاذب وخلاف داخل أبناء الشّعب الواحد وداخل تيّاراته السياسيّة الواحدة، إلى حدّ الخجل.
ناهيك عن عجز لجنة المتابعة اتّخاذ قرار الإضراب وإحياء ذكرى هبّة أكتوبر، ولا نقول فقط الشّهداء والجرحى، بشكل لائق.
في هذه الظروف، وبعد مرور 12 عامًا على هبّة أكتوبر، لا بدّ لنا كمجموعة وطن أصلانيّة، من إجراء مراجعة ومحاسبة داخليّة، حول تعاملنا مع هبّة أكتوبر، إسقاطاتها ونتائجها، تشمل
مراجعة تصرّفنا الجماعيّ، وتصرّف المؤسّسات العربيّة الجماعيّة (مثل لجنة المتابعة) كممثّل للعمل المشترك الافتراضيّ للفِلَسطينيّين في الداخل، ومراجعة دور وأداء الأحزاب العربيّة كي لا نفقد معاني هبّة أكتوبر، ولكي لا تكون الذّكرى هشّة أمام تقلّبات سياسيّة محليّة أو إقليميّة، مرهونة بمزاجات حزبيّة.
باعتقادي المتواضع، هناك غياب لعمل جماعيّ يرمي إلى تحويل الحدث إلى رافعة لتغيير مكانة الفِلَسطينيّين في الدّاخل، وإلى بناء مشروع وطنيّ جامع نتّفق عليه بالحدّ الأدنى، ووضع آليّات عمل جديدة تتعامل مع التحوّلات في السياسات الحكوميّة تجاه الفِلَسطينيّين في الدّاخل؛ بل أنّنا لم
ننجح في تحويل الحدث لمناسبة وطنيّة جامعة، تؤسّس لوعي جماعيّ مختلف؛ وتقصيرنا في تخليد ذكرى الشّهداء وتوثيق قصصهم وسرد ما وقع في هبّة أكتوبر، بالحد الأدنى.
وقد يكون أحد أبرز أسباب هذا العطب في التّصرف الجماعيّ وتصرّف المؤسسات الجمعيّة والأحزاب، هو غياب تعريف جماعيّ متّفق عليه لهبّة أكتوبر، مسبّباتها ونتائجها، واختلاف في التّعاطي مع نتائج الحدث، بسبب غياب المشروع الجماعيّ كسقف يعمل تحته الجميع.
فمن حيث تعريف وتفسير الحدث، تراوح التّفسيرات المطروحة – وهي استمرار للسّجالات الحزبيّة القائمة في المجتمع الفِلَسطينيّ – بين البُعد المعيشيّ الاقتصاديّ اليوميّ، والبُعد الدينيّ، والبُعد القوميّ في التّصرّف البطوليّ الّذي أبداه الفِلَسطينيّون في الدّاخل، على الرّغم من وجود رواية تاريخيّة جماعيّة لوصف الحدث.
والأسوأ، أنّنا لم نتّفق بعد، كمجموعة قوميّة، على استخلاص العبر وتوظيف نتائج هبّة أكتوبر لتغيير الوعي السياسيّ والمطالب السياسيّة أو وضع مشروع سياسيّ موحّد نتّفق عليه بالحد الأدنى للرّد على التحوّلات الخطيرة للغاية في تعامل الدّولة مع السّكّان الفِلَسطينيّين بعد هبّة أكتوبر.
إذ يقترح الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ أن يكون الرّد عن طريق بناء علاقات وائتلافات مع شظايا اليسار الإسرائيليّ، الّذي سقط في مصيدة الإجماع الصِّهيونيّ في هبّة أكتوبر؛ وتختار الحركة الإسلاميّة (الشّق الشماليّ) الانعزال عن المجتمع الإسرائيليّ وعن المنظومة السياسيّة
والحزبيّة الإسرائيليّة، وتفضّل تنظيم المجتمع على أساس دينيّ في انتظار حلّ إلهيّ؛ ويطالب التّجمع الوطني الديمقراطيّ بوجوب تنظيم المجتمع الفِلَسطينيّ على أساس قوميّ ديمقراطيّ وطرح مشروع على المجتمع الإسرائيليّ ككلّ؛ لا البحث عن حلفاء، ليكون بديلًا للنّظام القائم في الدّولة، وكنوع من أنواع التّسوية التّاريخيّة.
مقابل هذا التّشرذم هناك تحوّلات جدّيّة، وليست جديدة، في تعامل الدّولة مع السّكّان الفِلَسطينيّين على أثر هبّة أكتوبر. إذ نجد محاولات جادّة لإعادة تعريف «مشكلة الفِلَسطينيّين في الدّاخل» من قضيّة يمكن احتوائها بثمن مقبول بواسطة التّرويض والسّيطرة على التّصرف السياسيّ
والوعي السياسيّ للعرب، إلى مسألة تتطلّب حل واختيار بين بدائل، أمّا الحسم لصالح الحفاظ على يهوديّة الدّولة وسيطرة وتفوّق المجموعة اليهوديّة أو التحوّل إلى دولة عاديّة – طبيعيّة ديمقراطيّة، وطبعًا كان الحسم في صالح الخيار الأوّل. لذلك أصبح من الشّرعيّ، بل ومن
المطلوب، أن تُسنّ قوانين تمسّ بالعرب بشكل مباشر، وأن تركّز على قمع الهُويّة والوعي القوميّ بواسطة قوانين. كما أصبحت عدائيّة الدّولة أكثر وضوحًا وباتت تقايض المواطنة بتصرّف سياسيّ مقبول، واستعمال أدوات التّرهيب السياسيّ الأمنيّ الجماعيّ والفرديّ، لقمع وتجريم العمل السياسيّ.
فهل يمكن أن تكون المطالب السياسيّة والنّهج السياسيّ الجماعيّ بعد هبّة أكتوبر، والتّحوّلات الحاصلة في تعامل الدّولة شبيهة بما كانت عليه قبلها؟ وهل يعقل أن نتعامل مع التّغيّرات في سياسات الدّولة وسنّ القوانين العنصريّة، منها قوانين تُشرعن سياسات الفصل العنصريّ على أرض الواقع، بنفس أدوات العمل والعقليّة الّتي سادت قبل هبّة أكتوبر؟
طبعًا لا. المطلوب الآن، وقبل فوات الأوان، عدم تحويل ذكرى الهبّة إلى فولكلور تقليديّ يجوز فيه الاجتهاد في كيفيّة إحياء الذّكرى، بل إعلانها يومًا وطنيًا يُضرب فيه الفِلَسطينيّين في الدّاخل كلّ عام.
وألّا نختزل الحدث، كما يحلو للبعض، بمطالب مدنيّة مطلبيّة معيشيّة، بل إعادة البُعد القوميّ والوطنيّ للحدث، ليكون مناسبةً لطرح مشروع وطنيّ جماعيّ مُناهض للإجماع الإسرائيليّ، يكسر وهمّ الخط الأخضر، كما كسره الشّهداء والمُصابين بدمائهم وعطائهم.
وألّا تربط ذكرى الحدث بمزاجات عابرة أو تتأثّر من أحداث مُستجدّة. وهذا ليس مستحيلاً، خاصّةً على ضوء مثابرة الأجيال الشّابة بالمشاركة الرائعة في إحياء ذكرى الأحداث الوطنيّة الجامعة، وإصرارها على إحداث نقلة نوعيّة بصيغة ومضامين إحياء المناسبات الوطنيّة.