جران تورينو،الفيلم الجديد لكلينت إيستوود- زياد شليوط- شفاعمرو

مراسل حيفا نت | 25/03/2009

 

يضع تحديات جديدة وكبيرة للعلاقات العربية- اليهودية في منطقتنا!

يعرض حاليا في دور السينما الفيلم الجديد للممثل والمخرج الأمريكي المعروف، كلينت إيستوود "جران تورينو" وهو آخر أفلام ايستوود. والفيلم يتناول موضوعا هاما يجعلنا نفكر ونسقط ذلك الموضوع على واقعنا سواء في على صعيد المنطقة عامة أو في داخل اسرائيل خاصة.

وموضوع الفيلم باختصار يتناول قصة رجل دخل في خريف عمره، يدعى "والت كوبلسكي" يعيش لوحده بعدما توفت زوجته، بينما يعيش ابناه مع عائلتيهما بعيدا عنه جسديا واجتماعيا. والت أمريكي من أصول بولونية، شارك في الحرب الأمريكية في كوريا، وصاحب آراء عنصرية وسريع الغضب، وهو ما زال يعيش في بلدة مهملة أخذ أهلها يهجرونها ويحل محلهم مهاجرون من بلاد جنوب شرق آسيا، من بقايا قبائل "الهامونغ"، ومن الطبيعي أن يحصل توتر في البداية بين الساكنين الجدد وبين الساكن الأصلي الوحيد تقريبا الذي بقي متشبثا ببيته وبلده، خاصة في الحي الذي تدور فيه أحداث الفيلم. أما "جران تورينو" فهو اسم السيارة التي يملكها والت ويرفض التنازل عنها، والتي ساهم في بنائها في المصنع الذي كان يعمل فيه، ورغم انقضاء السنوات إلا أن تمسكه بهذه السيارة القديمة يقوى ويشتد.

تنشأ حالة من الكراهية بين والت وجيرانه الجدد، وتظهر بعض المشاهد التي يغلب عليها الطابع المضحك لما تحمله من مفارقات، مثل منع الجيران من الدوس على العشب الأخضر في حديقة منزله وغيرها، ويصل التوتر ذروته في محاولته قتل ابن الجيران، الذي أقدم على محاولة فاشلة لسرقة سيارة والت، نتيجة ضغط عصابة من أقربائه وأبناء قبيلته المهاجرين. وترتفع وتيرة العداء بين والت وأفراد العصابة بعد اعتدائهم بوحشية على ابن الجيران وشقيقته، بعدما ربطت علاقة وثيقة بين والت وجيرانه، ويخرج والت في النهاية للدفاع عن جيرانه والثأر من العصابة التي تنشر الرعب في المنطقة، لكنه يختار طريقا غير مألوف وجديد (وربما يعود هذا لتقدم سن ايستوود نفسه)، فيقدم نفسه ضحية، بحيث يخدع أفراد العصابة ويجرهم لإطلاق النار عليه حتى الموت، بدل أن يقتلهم كما جرى في الأفلام السابقة، فيسقط ضحية من أجل أن تلقي الشرطة القبض بالدليل القاطع على أفراد العصابة وتودعهم السجن.

منذ أن وقعت عيناي على إعلانات الفيلم وبي رغبة لمشاهدته، ولا أخفي إعجابي بأدوار ايستوود خاصة في أفلام رعاة البقر، وفيما بعد الأفلام المدنية، رغم مخالفتي لخطه السياسي الذي تمثل في دعم المرشح الجمهوري في الانتخابات الأمريكية الأخيرة. والأمر الآخر الذي شدني لمشاهدة الفيلم هو ما قرأته عن موضوع الفيلم، وشغلتني فكرة الفيلم وانعكاساتها على علاقاتنا كفلسطينيين ومواطنين عرب في اسرائيل مع الغالبية اليهودية أو دولة الاحتلال. ولا أخفيكم القول أن تلك اشكالية ليست سهلة، لكنها ما انفكت تلح علي.

يمكن النظر إلى موضوع الفيلم وانعكاسه على العلاقات العربية- اليهودية من منظارين. المنظار الأول يمثل الصراع بين السكان اليهود في المدن المختلطة والسكان العرب الذين وفدوا إليها، ونشوء التوتر بينهما الذي يصل إلى حد المواجهات الجماعية كما جرى في مدينة عكا قبل أشهر معدودة، أو إلى تنظيم عصابات تسعى لطرد الوافدين الجدد، كما جرى في نتسيرت عيليت، أو في حيفا حيث أخذ السكان اليهود يتركون أماكن سكنهم بداية في البلدة السفلى وبعدها في الهدار، بحيث سكن محلهم العرب. تلك الحالة نشأ عنها توترات ما زالت موجودة بين المجموعتين القوميتين، وما زالت تولد حالات من المواجهة بين الطرفين.

المنظار الثاني يتمثل في حالة الاحتلال، ونتيجة له رحلت أعداد كبيرة من أبناء الوطن وتشردت في بلاد عديدة، وأخذ مكانها المحتلون وخاصة المستوطنون الذين استولوا على بيوت العرب كما جرى ويجري في القدس الشرقية وفي مدينة الخليل وغيرهما، إلى جانب بناء المستوطنات على أراضي الفلسطينيين. وكم ولدت هذه الحالة من صراعات دامية واعتداءات ومواجهات حصدت الكثير من الأرواح، ولم ننس بعد المجزرة التي نفذها العنصري غولدشطاين في الحرم الابراهيمي في الخليل.

فيلم "جران تورينو" يعرض تلك الحالات من زاويته، ولنا أن ننظر إليها من زاويتنا، لكن لدينا أكثر من زاوية. أما النتيجة الهامة والحتمية والتي يبدو أنها الطريق الوحيد الذي يضع حدا لدائرة الدم المفتوحة، هي التنازل عن الأحقاد والتوصل إلى قناعة التعاون بين قوى الخير أمام الشر المتصاعد. ففي المدن المختلطة لن يكون حل إلا بتعاون قوى الخير من الطرفين للجم العنصريين والمتطرفين الذين يزعجون العرب واليهود على حد سواء. وكذلك في واقع الاحتلال أيضا، ما لم يتنازل كل طرف عن عوامل الكراهية ويتراجع عن أحقاده فلن يتوصلا إلى تفاهم.

هل هذه حلول معقولة وواقعية، هل هي مثالية؟ لقد جرب طريق العنف والقتل، جرب طريق الثأر والحقد؟ هل أوصل ذاك الطريق الطرفين إلى حل واستقرار وأمان؟ أفلا يجدر بهما تجريب الطريق الآخر، طريق التسامح والتعالي على الجراح؟ فيلم "جران تورينو" يضعنا أمام تحد ليس بسيطا، فالمقاتل والت صاحب الآراء العنصرية والكراهية الشديدة لكل من ليس من عرقه، تحول وبقناعة تامة إلى انسان محب لأعدائه وبات صديقا لهم، ودفع حياته كي ينقذهم وينقذ المجتمع من عصابات الشر، فهل يمكن أن تنشأ حالة مشابهة لدينا؟

ليس لدي جواب واضح وقاطع، انما أطرح هذه الأفكار التي ما انفكت تلح على خاطري منذ أن شاهدت الفيلم، وترسم أمامي تحديات عديدة تتطلب درجة عالية من ضبط النفس وكبت المشاعر الدفينة.

فيلم "جران تورينو" يعالج مواضيع هامة أخرى، لكنها تبدو صغيرة أمام الموضوع الكبير، لكنها ربما، لا تقل أهمية عن سواها. فهناك اشكالية العلاقة بين رجل الدين (الكاهن) والرجل العلماني البعيد عن الايمان والرافض للمفاهيم الدينية (والت)، لكن في النهاية يتراجع عن عناده ويلجأ للكاهن والكنيسة. وهناك اشكالية علاقة المسن بأبناء عائلته خاصة أولاده وعائلاتهم، والتباعد الكبير في العقلية والمفاهيم، هذا الموضوع الذي بات يطرق في مجتمعنا بحدة وقوة، والفيلم يتطرق لهذه الاشكالية لكنه لا يطرح الحلول لها، لأنها لم تشكل الموضوع الرئيس لأحداث الفيلم.

وبعد، مهما كان موقفك من موضوع الفيلم، ومهما كانت وجهة نظرك ومن أي زاوية تنظر إليه، لا يمكنك إلا أن تنظر باعجاب لهذا الفيلم المتقن والمتماسك فنيا، ولا بد لك إلا أن تستمتع بمشاهدته.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *