مقابل باب فرع البنك الّذي وقف على جانبه حارسٌ شابّ، في مساحة الرّصيف الّتي يحدّها من يسارها سور حديديّ مُبقّع بالصدأ، وأنت تنظر بعكس اتّجاه سيل السيّارات، جلس سعيد.
في المرّة الأولى الّتي رأيته فيها مُقتعدًا الاسفلت بيسراه المقطوعة والتواءَة ظهره الفتيّ بجانب علبة كرتونيّة بما تيسّر له فيها من قطع عملةٍ معدنيّة متفاوتة القيمة، أشهرتُ كلّ عدّتي الأيديولوجيّة، مُسترجعًا مقولة الإمام علي «لو كان الفقر رجلًا لقتلته». لكن كلّ تضامني معه اختـُزل بعد قليل إلى إشهار ضمنيّ لبطاقتي الصِّحافيّة، وتقدّمت إليه مُستفسرًا عن حاله.
نأتي كلّما تيسّرت الدروب من إحدى قرى شمال الضِّفة – قال؛ ولم يُضف نعت الضِّفة بالغربيّة ولا تمييزها سياسيًا بالُمحتلَّة. هناك شخص يأخذنا في سيّارته ثمّ يلمـّنا. على الحاجز؟ عادةً لا يعملون مشاكل، إلّا إذا كانت هناك مشاكل أمنيّة في المنطقة.. حالي منيح، هيّانا شو بَدنا نساوي.
مستورة نحمد اللّه. عندي أخوة أكبر منّي وأكثر منهم أصغر. لا أحد يضايقني، فقط في إحدى المرّات سرقوا لي الغلّة. (ولاد عرب، قال يومها، مش تكول يهود يعني – وقد تغلبتُ على نفسي فلم أشطب هذه الإضافة المُحرجة). الوضع عاطل، مش نافع، بس بَدنا نعيش.
مساحة الرّصيف الضيّقة كانت في مدّ وفي جزر حسب اكتظاظ المارّة فيها. معظمهم يحمل سلالًا وأكياسًا معبّأة بما اشتروه في المحلّات الشعبيّة الممتدّة على طول الشّارع من جهتيه، والّتي تناثرت فيها كجزر صغيرة محلّات أكثر لمعانًا تحمل لافتاتها الّتي تضيء ليلًا أسماء ماركات وشركات نشاهدها في اعلانات التلفزيون.
حارس فرع البنك بدا نشيطًا وباشّـًا ربّما بسبب هذه الشمس الربيعيّة الّتي حشرت نفسها فيما تبقّى من أيّام الشتاء الّذي يغيب ببطء مع توالي العدّ التنازليّ (التصاعديّ بالأحرى؟) لآذار. وقد كان يتمخطر ما بين كرسيه الأسود وحتّى محيط دائرة وهميّة بقطر مترين من حوله، حاملًا تلك العصا السّوداء الّتي يمرّرها على أجساد عبيد البنك – عباد اللّه الداخلين إلى منشأة المال.
«مرحبًا سعيد»، وتزامنت التفاتته الّتي رفعها إلى وجهي من قعدته العربيّة بعينيه البارقتين تحت سُمرة جبهته، وبذقنه الحليقة بعناية، مع ردّه التحيّة بأحسن منها: أهلًا يا خوي. الـ أهلًا كانت بنغمة أهلان طويلة، وفوقها ابتسامة ومدّة يد فوريّة مُصافِحة. قرفصت بجانبه، دون أن أعرف ما أقول له: شو ياخي؟ مستورة، الحمد للّه، كيف شغلك إنتي، بعدك بالمجلـّة. يلّلا منيح اللـّي الواحد ملاقي شغل. وامتدّ بنا الحديث عن الوضع والحالة، ثمّ السياسة (أبو مازن منيح، بيقولوا)، وشو رأيك بيصير سلام؟ لعلـّه خير.
تعبت من القرفصة، فاقتعدت حقيبتي الصّغيرة بجانبه ومرّ أحد معارفي الّذي حيّاني وأراد الإطالة في الكلام، فصرفته بأدبٍ جمّ حين بدأ ينسج نظريّة سياسيّة على أكتاف سعيد، وعدنا إلى شؤوننا. ما رأيك بفنجان قهوة، وافق بترحاب. عُدت بكأسين من الكرتون صبّت فيهما السيّدة الخمسينيّة مقابل المركَز التجاريّ متعدّد الطوابق سائل القهوة من الماكينة؛ عرضت عليه سيجارة كالعادة، وكالعادة رفض ناصحًا: شو بدّك بهالدّخّان؟
بين الحين والآخر كانت ترنّ قطع معدنيّة في كرتونة سعيد، وهو يرفع رأسه شاكرًَا، مرّة بكلمة عبرية عربيّة اللّهجة، ومرّة بهزّة من رأسه وعينيه. حارس البنك تدخّل هنا وهناك بمزحة، ربط فيها ما بين خزنة البنك في الداخل وخزنة سعيد: لقد اختار مكانًا استراتيجيًا فيه نقود وحراسة أيضًا. وربّما أنّه بفضل لهجته الروسيّة ظلّ بعيدًا عن لغة الدولة الرسميّة: الاستعلاء. أمّا سعيد فكان يضحك بل إنّه شجّعني على تبسيط الموقف.
حين غادرت سعيد ودّعته وأنا مهموم بالتّساؤل الّذي يغرقني في كلّ مرّة: لماذا لم أترك له بعض النّقود؟ ولكنّي لو فعلت، سأهدم تلك الصداقة الخفيفة الّتي تنشأ بيننا. فهو ليس متسوّلًا بالنسبة لي، وأنا لست عابر طريق يرمي إليه ببعض النّقود والشفقة.
ولكن لحظة، إنّه بحاجة للنّقود وإلّا لما تَمرمَط كلّ هذه الطريق من شمال الضِّفة حتّى المهانة هنا. مع ذلك فلن أبيعه بحفنة من الشّواقل. ولكن من قال إنّ سعيد يريد هذه الصّداقة أصلًا. سأسأله في المرّة القادمة! ولكن كيف سيكون موقفه؟ وكيف سيكون موقفي أنا؟
بعد قليل أصل مكان عملي وأنشغل عن التّساؤلات بشأن سعيد، حتّى تعود لتنفجر المرّة القادمة.
(2004)