حين يصبح المناضل ملح الارض- بقلم : وصفي عبد الغني

مراسل حيفا نت | 23/03/2009

 

تزاحم الشباب وتدافعوا باياد مرفوعة فوق الرؤوس، يحملون عـلى اطراف الاصـابع نعشا قد لفّ بالعلم الفلسطيني، دخلوا به الكنيسة في مدينة حيفا لاقامة القداس والصلاة على روح الفقيد. وكان المئات الذين وصلوا من الجولان شمالا حتى النقب جنـوبا قد ساروا خلفهم بموكب جنائزي مهيب،جـاءوا لــوداع المنـاضل الراحـل داوود تركـي، الذي وافته المنية بعد صراع طويل مع المرض الذي كان قد انهك منه الجسد، لكنه لم  يعرف الطريق الى روحه، فان كان الجسد قد توقف عن النضـال. الا ان الـروح فيــه بقيت فتية مناضلة لا تعرف المرض او الاستسلام،لان روح المناضل لا تستسلم الا  لبارئها.فُتح النعش لإلقاء نظرة الوداع على الجسد المسجّى داخله، فبدى وكانه في غفوة صغيرة سيستيقظ من بعدها ليكمل المشوار الذي كان قد بدأه قبل اربعين عاما، يوم ان قام بانشاء تنظيم سري مقاوم للاحتلال، جنّد فيـه اعضـاء من الـعرب والـيهود معـا.كان داود ذلك الطفل الذي ولد عام 1927 في قرية المغار الجليلية، الا انه انتقل مع باقي افراد عائلته للسكن في مدينة حيفا التي اتاها والده بحثا عن العمل والرزق في اعقاب القحط الذي ساد قريته. تعلم في المدرسة الاهلية للطائفة الكاثوليكية وكان من بين الطلاب المتفوقين فيها،عمل اثناء فترة الانتداب البريطاني في مصلحة الجمارك في ميناء حيفا. الا انه فصل من عمله في العام 1947 نتيجة توجهاته الوطنية التي برزت منذ صغره ولمعارضته لقرار التقسيم واقامة الدولة اليهودية على ارض فلسطين. انضم في العام 49 للحزب الشيوعي وكان عضوا ناشطا فيه، لكنه دخل في خلاف مع قادة الحزب حول سياستة ونهجه، ما ادى في نهاية المطاف الى ابعاده عن الحزب.

 كان داود صاحب مكتبة في حي وادي النسناس في حيفا، رزق بثلاث بنات كانت بكرهن عايدة فعرف في الحي "بأبي عايده" واتجه نشاطه نحو فعاليات مجموعة     " ماتسبين " اليسارية ،وقد عرف عنه خلال تلك الفترة دعمه للعمليات العسكرية.سافر في العام 1969 الى جزيرة قبرص حيث تجند للعمل لإقامة تنظيم  سري يعمل لصالح المخابرات السورية ومنظمة فتح التي تأسست قبل ذلك باربع سنوات. بعد عودته الى حيفا بدأ بتجنيد عناصر الشبكة وارسالهم في رحلات الى الخارج، تبين فيما بعد بان الهدف من هذه الرحلات كان تدريبهم على السلاح والمتفجرات في سوريا، وفي شهر اكتوبر من العام 1970 قام داود بالسفر الى تركيا فأقام فيها لمدة شهر بدعوى ترتيب دراسة ابنته عايده، التي تحولت هناك لواحدة من حجار الزاوية في التنظيم الذي اسّسه. وبعد ان كشف التنظيم سافرت عايدة الى دمشق التي لا تزال تعيش فيها حتى الان.

الشاعر المناضل داود تركي

قام داود بتجنيد الشاب اليهودي اودي اديب الذي قاد احدى الخلايا التي كان جميع اعضائها من اليهود، وقد سافر اودي بنفسه الى سوريا وتلقى التدريبات فيها. كان التنظيم الذي بناه داود مذهلا من حيث حجمه اذ اشتمل على عشرة رؤساء خلايا و27 نشيطا و117 من الاشخاص المرتبطين بالشبكة.

في ليلة السادس من شهر ديسمبر كانون الاول 1972 تم اعتقال داود مع افراد التنظيم الذين قدم 40 منهم للمحكمة، وقد ادانت المحكمة كلا من داود واودي بتهمة الخيانة العظمى. وتم فرض عقوبة السجن لمدة 17 عاما على كل منهما، كما تم فرض عقوبة السجن لفترات متفاوتة على باقي افراد التنظيم. وكان لنشرالخبرعن كشف التنظيم اكبر الاثر على مشاعر الناس، فاهتزت مشاعر المواطنين عقب النشر كون التنظيم اول تنظيم عسكري تجسسي عقائدي عربي يهودي مشترك في اسرائيل. ولأن الكشف عنه جاء في اعقاب عمليتي مطار اللد واولمبياد ميونخ باشهر قليلة، وخصصت وسائل الاعلام مساحة شاسعة لتغطية حملة اعتقال اعضاء التنظيم السري ومحاكمتهم على مدى فترة طويلة.

قضى داود في السجن مدة ثلاثة عشرة عاما خرج بعدها مع باقي اعضاء التنظيم، ضمن عملية تبادل الاسرى مع منظمة احمد جبريل والمعروفه بعملية النورس. ومع دخوله السجن فقد بدأ داود نضالا من نوع اخر. حيث قاد اضرابات الاسرى من اجل تحسين ظروفهم. كما بدأ النضال بالكلمة، فتفرغ في سجنه لكتابة القصائد التي جمعها في ديوان تحت عنوان " ريح الجهاد " كما انه نشر قصائد اخرى في كتابه   " ثائر من الشرق "  الذي كان بمثابة سيرته الذاتية.

عبر داود في قصائده عن فكره وعقيدته ومسيرته النضالية، كما عبر فيها عن احاسيسه المرهفة ومشاعره الفياضة اتجاه قوميته العربية ووطنه، فيقول في قصيدته " انا يعربي النفس " :

                   وطنـــي فلسطـــين ورملتـــها        هي اول الشامات في الشلب

                   ماض احث السيرمن صغري       لفـدى ثراها الغض والرطب

 

ويكتب قصيدة لدمشق التي احبها منذ طفولته اسماها " ايه دمشق " يقول فيها :    

                   ايه دمشق يقضني ومحبتي        بعد يعذب خاطري ويمزق

وكما احب دمشق احب بغداد ايضا فخاطبها قائلا :

                   دومي على النهرين قاهرة       كيد العدى، دومي مدى الحقب

هكذا هو داوود المناضل العنيد، الذي لا يعرف الهدوء ولا الاستكانة حتى وهو مقعد على كرسي العجلات، فقبل وفاته بايام قليلات اجرت معه صحيفة "الحقيقة " مقابلة صحفية اختتمها بوصية قال فيها : " ممنوع التوقف عن التصدي للظلم مهما كان جبروته. هذا الوطن غال علينا ومن الواجب على الجميع حمايته والذود عنه".

من جديد وعلى اطراف الاصابع حمل النعش خارج الكنيسة بموكب مهيب اخترق شوارع حيفا يودعها لاخر مرة في طريقه الى مثواه الاخير. وهناك على احد السفوح الهابطة من قمة جبل الكرمل الاشم، المطل على البحر، دخل داود في الثرى الذي طالما ناضل من اجله، يدخل هذه المرة من تحته ليمتزج به امتزاجة ابدية تحوله الى ملح هذه الارض .      

                

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *