الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى الرئيس الروحيّ لرعيّة الروم الكاثوليك
يدّعون الدّيمقراطيّة! وها هي ديمقراطيّتهم تظهر على حقيقتها وتخرج من ظلماتها ونتانة رائحتها الكريهة، رائحة الحقد والعنصريّة والفوقيّة والتّبرجز، لتمسّ لا بمشاعر المسيحيّين فحسب، بل بمشاعر كلّ إنسانٍ يعرف معنى الحريّة وقيمتها في حياة الإنسان والمجتمع، ويحترم دين الآخر مهما اختلف عنه، وذلك انطلاقًا من المقولة المأثورة: "الدّين لله والوطن للجميع". ها هي أرضُنا الّتي تعاني الظّلم والاستبداد والعنف وشتّى أنواع القهر ضدّ الإنسان والإنسانيّة، تواجه اليوم حملةً جديدةً من العنصريّة الدّينيّة المتمثّلة بهذا الحاقد الغاشم الّذي لا يستحقّ حتّى أن يُذكر اسمه، لئلاً يَعتبر نفسه ذي أهميّة في فعلته الآثمة هذه.
المسيحيّين والمسلمين في خندقٍ واحد
إنّ تمزيق الكتاب المقدّس، العهد الجديد، يشير وبكلّ وضوح أنّ مرحلةً جديدةً باتت تلوح في الأُفق: هل يا تُراها مرحلة تفريغ المسيحيّين من الشّرق؟ مَن هو المستفيد الأوّل من هذا التّفريغ والتّهجير الممنهَج؟ علينا أن نقرأ هذه الحادثة بتمعُّنٍ مستفيضٍ لمعرفة أدقّ التّفاصيل الّتي تحوم حولها: إفراغ المسيحيّين من الشّرق ليس ضربةً تُوجَّه إلى المسيحيّين فقط، بل إلى صدور العرب المسلمين.
هذا هو قَدَرُنا، وهذا هو مصيرنا. لقد قلتُ في مقابلةٍ سابقةٍ إنّ المسيحيّين والمسلمين في خندقٍ واحد ومصيرهم مرتبطٌ ارتباطًا مباشرًا الواحد بالآخر. وقلتُ في موضعٍ آخر إنّ ما يحدث على المقدّسات الإسلاميّة يحدث أيضًا على المقدّسات المسيحيّة والعكس.
جريمة غاشمة
فوجئت كثيرًا من ردّة فعل الشّارع المسيحيّ الخاملة والنّائمة والغريقة في سُباتها بطبقاته الكهنوتيّة والشّعبيّة والمتعلِّمة والمثقّفة. وفوجئت أيضًا من أيّة ردود فعلٍ من الإخوة المسلمين، وكأنّ ما يحدث للعرب المسيحيّين لا يخصّهم ولا يعنيهم. نحن شعبٌ واحد، تاريخٌ واحد، جغرافيا واحدة، لغة واحدة، وعلينا أن نكون واحدًا ونعمل مع بعضنا البعض في الدّفاع عن مقدّساتنا العربيّة.
عندما أحرق القسّيس الغاشم القرآن الكريم، هببتُ بكلّ ما أعطاني الرّبّ من قوّة، وكتبتُ مستنكرًا الحادثة الحاقدة ضدّ إخوتنا والّتي كانت ضدّنا نحن كعرب بعيدًا عن الطّائفيّة والمذهبيّة الّتي جذّروها وأصلّوها في عقليّتنا وفكرنا وكلماتنا. وذهبتُ أيضًا إلى الإعلام المرئيّ والمسموع مستنكرًا هذه الجريمة الغاشمة. هل نحن حقيقةً شعبٌ واحد؟ هذا سؤالٌ أضعه رسم التّفكير والدّراسة لجميعنا مسيحيّين ومسلمين.
كتلة واحدة قويّة وجبّارة
لطالما اكتفَينا بالتّنديد والاستنكار ولم نقم بأيّ عملٍ يواجه آلة العدوان هذه على مسيحيّتنا ومسيحنا، وهذا يُشرِّع لهم الحقّ في أنّ المسيحيّين مُلتهين وقابعين في بيوتهم ولا يهمُّهم أمر مسيحهم ومسيحيّتهم. لا تنتظروا أن يُدافع عنكم أحدٌ، حتّى الغرب الّذي يدّعي المسيحيّة وهو بعيدٌ كلّ البُعد عن رسالتها وتعاليمها. تعالَوا نضع أيدينا بأيدي بعض، نتكاتف، نتعاون، نرصّ صفوفنا ونُلغي منها كلّ تعصُّبٍ طائفيّ. لقد حان وقت العمل معًا. نعم، أيّها المسيحيّون، لا تخافوا من عددكم الصّغير، لأنّ نوعيّتكم قد فاقت عددكم بأضعافٍ وأضعاف.
لقد حان الوقت الّذي نُصبح فيه كتلةً واحدةً قويّةً جبّارةً نستطيع من خلالها الحفاظ على وجودنا التّاريخيّ والجغرافيّ والخلاصيّ في هذه البلاد المقدّسة. لن ندع أيًّا كان أن يُلغيَ وجودنا وتاريخنا المتجذِّر في هذه البلاد المقدّسة منذ أكثر من ألفي عامّ: ناصرتنا وقدسنا وبيت لحمنا وقرانا ومدننا المهجَّرة والمنكوبة، لا ننسى لئلاّ يضعوننا في سجن النّسيان، ونُنسى هناك قابعين في ظلمة الأسر والهوان.
افتتاح الزّمن
لقد حان الوقت أيّها المسيحيّون بكلّ عائلاتكم الرّوحيّة: الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة والبروتستانتيّة أن نعمل معًا لأجل أولادنا ومستقبلنا، نعمل بمخطَّطٍ واضحٍ ورؤيةٍ ثاقبةٍ لواقعنا الّذي نعيش فيه، منطلقين مع بعضنا البعض إلى افتتاح الزّمن الّذي فيه نكون واحدًا بكلّ ما في الكلمة من معنى. هذه صفعةٌ جديدةٌ من سلسلة صفعاتٍ وُجِّهَت إلينا اليوم وكلّ يوم من خلال التّطرُّف الدّينيّ الأعمى والبغيض، ويجب أن نكون، كمسيحيّين، على مستوى المسؤوليّة الملقاة على كاهلنا.
إنّها مرحلةٌ يجب أن نكون فيها متيّقظين وواعين لخطورتها على كافّة الأصعدة الدّينيّة والاجتماعيّة والأيديولوجيّة. ولن نستطيع أن نصدّها إلاّ إذا اتّحدنا معًا لنبنيَ السّور الحصين والمنيع على مَن يحاولون كسر أمّتنا المؤمنة بالرّبّ يسوع المسيح الحيّ، الغالب، المنتصر والظّافر. لا تخافوا، يقول لنا السَّيِّد المسيح في الإنجيل المقدّس، لأنّي قد غلبتُ العالم.
الدّفاع عن الأرض والمعتقدات
إنّها دعوةٌ اليوم إلى تجديد مسيحيّتنا، إلى الإنتصار على الأنانيّة الذّاتيّة، دعوةٌ إلى مزيدٍ من الوَحدة والعمل معًا، لنكون أقوياء، كما قال القدّيس بولس، بالّذي يُقوّينا المسيح يسوع. لن نسكت بعد اليوم على مَن يجرح مشاعرنا الدّينيّة ويمسّ بهُويّتنا وكرامتنا! لن يهدأ لنا بالٌ إلاّ إذا عملنا معًا على معاقبة هذا المجرم الحاقد ومحاكمته وتجريده من حصانته البرلمانيّة.
أدعوكم أيّها المحامون جميعًا إلى الاجتماع لنقدِّم دعوى قضائيّة ضدّ هذا الحاقد المتطرِّف، يجب أن ينال عقابًا جزاءً على فعلته هذه. لا نتكتّم على حقّنا المشروع في الدّفاع عن أرضنا ومعتقداتنا وإيماننا حتّى ذهبنا كلّنا إلى الكنيست للإعتصام هناك. إنّها مناسبةٌ لتحقيق الوحدة المسيحيّة وتجميع القوى والإمكانيّات لنكون يدًا واحدةً وقبضةً واحدةً في وجه كلّ مَن تحلو له نفسه في إضعافنا وتشريدنا وزعزعتنا. هذه بلادنا، وهذه أرضنا ولن نتركها مهما حدث، إذ إنّ وجودنا هنا ليس منّةً من أحد، نحن هنا، نحن هنا، نحن هنا.
أبواب الجحيم لن تقوى عليكم
وإنّي، من هنا، أدعو جميع المسيحيّين إلى عدم الخوف والقلق والاضطراب، فمهما فعلوا، فإنّهم سيبقَون أضعف ممّا يظنّون، ومهما حاولوا فتح جبهاتٍ ضدّ الكنيسة المقدّسة والمسيحيّين، فإنّي أستذكر، معكم، كلام السَّيِّد المسيح في الإنجيل المقدّس: "أبواب الجحيم لن تقوى عليها". وأقول لكم أيّها المسيحيّون إنّ أبواب الجحيم لن تقوى عليكم ولن تُزعزع إيمانكم وثقتكم بالرّبّ يسوع المسيح.