طوبى للغرباء
بقلم: الشيخ رشاد أبو الهيجاء
«طوبى للغرباء» تعني السعادة والسرور والحياة الطيبة، والبشرى بأعلى مراتب الجنة لمن عاش في هذه الدنيا حياة الغربة. وحتى نصل إلى مراد هذا العنوان، لا بدّ من الجمع بين حديثين شريفين لرسول الله ﷺ والتأمل في معانيهما.
أما الحديث الأول، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي وقال:
«كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل».
وأما الحديث الثاني، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
«بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء».
تحمل هذه الأحاديث معاني عميقة، وتؤسس لمنهاج متكامل في التربية الإنسانية. فالغريب، بطبعه، لا يتدخل فيما لا يعنيه، مصداقًا لقول النبي ﷺ: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». والغريب لا يشغل نفسه بأعمال الناس، لأنه يعلم أنه سيغادر المكان الذي نزل فيه. كما أن الغريب العاقل يحرص على إظهار أحسن ما عنده من حسن الخلق، لأنه يمثل نفسه ودينه في أرض ليست له.
وعندما قال رسول الله ﷺ: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا»، كانت في ذلك إشارة واضحة إلى حال الجزيرة العربية قبل الإسلام، حيث عبادة الأصنام، ووأد البنات، والعصبية القبلية، والاقتتال لأتفه الأسباب. فجاء النبي ﷺ بوحي السماء ليحرر العقول من الجاهلية، ويقيم الناس على المحجة البيضاء، ويكرم الإنسان بغض النظر عن انتمائه أو جنسه، ويجعلهم جميعًا أمام الحق سواء.
ورغم سمو هذا المطلب، وسمو هذا الدين الذي يحرر الإنسان من عبادة الأصنام والأشياء ليصبح عبدًا للرحمن، فإن طواغيت ذلك الزمان سلكوا نهج فرعون وهامان وقارون. فانشغلوا بكيفية القضاء على هذا الطرح الجديد، ولم يترددوا في السعي لقتل كل من قال: ربي الله ثم استقام. ولذلك لم تكن الهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم الهجرة الثانية إلى المدينة المنورة، إلا حفاظًا على الدين والنفس.
ومن هنا تبرز عدة أسئلة:
ما دور الغرباء من الرعيل الأول؟
وهل نحن اليوم في زمن غربة؟
وإذا كنا كذلك، فما الذي ينبغي علينا فعله في زمن الغربة؟
كان همّ الرعيل الأول الاستقامة، والاستجابة لأمر الله، والابتعاد عن المنكرات، ثم السعي الجاد لبناء مجتمع سليم في عقيدته ومعاملاته، ينظر إلى معالي الأمور ويسعى لتحقيقها ولو خسر متاع الدنيا كله.
أما في زماننا، فقد عاد كثير من الناس إلى جاهلية جديدة، رغم أنهم يصلّون ويصومون ويزكّون، لكنهم لم يجعلوا من الإسلام منهج حياة يضمن السعادة لهم ولمن حولهم، حتى لغير المسلمين. وقد يستغرب البعض هذا القول، لكنه قول من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
نرى اليوم القتل سائدًا في مجتمعاتنا، والتعامل بالربا، والسوق السوداء، والانجراف نحو الفجور والمجون، وكل مظاهر الفساد، إلا من رحم الله. فقد تجد من يصلي ويسرق، ويصلي ويقطع رحمه، ويصلي ويتعامل بالربا، ويغش ويرتشي. وإذا وُوجه أحدهم، لجأ إلى مصطلحات دينية ليبرر أفعاله.
وهكذا أصبح أهل الإيمان والاستقامة غرباء بين أهليهم، حائرين من سلوك الناس، يرون في ذلك خروجًا على تعاليم الأنبياء. وقد أشار رسول الله ﷺ إلى هذا المعنى عندما نزلت سورة النصر:
﴿إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا﴾، فقال ﷺ:
«ليخرجن منه أفواجًا كما دخلوه أفواجًا».
بل قد يصل الحال، كما حذّر النبي ﷺ، إلى زمن لا يُذكر فيه اسم الله، فقال:
«لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله».
ويكون ذلك عند ملاحقة أهل الاستقامة، حتى قال ﷺ:
«سيظهر شرار أمتي على خيارها، حتى يتخفى المؤمن كما يتخفى المنافق».
ورغم هذه الغربة، فإن على أهل الإيمان مسؤولية عظيمة، بينها رسول الله ﷺ، وهي الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والكلمة الطيبة، وحمل همّ الأمة والشعب، لأن من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
ومن أعظم المهام الملقاة على عاتق الغرباء: الإصلاح بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. فعندما سُئل رسول الله ﷺ: من الغرباء؟ قال:
«الذين يصلحون إذا فسد الناس».
وقد يكونون قلّة، كما قال ﷺ:
«ناس صالحون في ناس سوء، كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم».
الغرباء يصلحون ولا يفسدون، لأن أنظارهم متجهة إلى نهاية المشوار، وهمّهم طاعة الله وإسعاد الخلق. ولذلك فهموا وصية النبي ﷺ حق الفهم. فقد قال ابن عمر رضي الله عنهما معقبًا على قول النبي ﷺ: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»:
«إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك».
وهذا الفهم منبثق من قول رسول الله ﷺ:
«ما لي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها».
طوبى للغرباء… أولئك الذين ثبتوا حين تزلزل الناس، وأصلحوا حين فسد الكثير، وجعلوا من غربتهم طريقًا إلى رضوان الله.




