ماذا يبقى من إميل حبيبي؟ بقلم: البروفيسور محمود غنايم- رئيس مجمع اللغة العربية في حيفا

مراسل حيفا نت | 14/03/2009

 أقام مجمع اللغة العربية في حيفا حفلا خاصا أقيم تكريمًا للأديب الراحل إميل حبيبي بحضور ورعاية وزير العلوم والثقافة والرياضة غالب مجادلة. حيث أزيح الستار عن ركن خاص في مجمع اللغة العربية  تخليدا لذكرى حبيبي.وقد ألقت د.راوية حبيبي غنادري كلمة باسم عائلة الأديب الراحل في قاعة مسرح الميدان الصغرى في أمسية ثقافية حضرها أدباء وشعراء وعائلة الأديب حبيبي حول والدها الأديب،السياسي ،الأب والإنسان.وتولى عرافة الأمسية الثقافية الإعلامي نادر أبو تامر كما قدم قراءات من أدبه بأسلوب شيق ولمحات عن حياته الأدبية والسياسية.  وألقى الوزير مجادلة كلمة دعا فيها الى تكريم وتخليد ذكرى الأدباء والشعراء والمبدعين العرب.هذا وقامت عائلة الأديب الراحل حبيبي بتوزيع كتب على الحضور وهي الأعمال الكاملة تخليدا لذكراه قام بطبعها سلام اميل حبيبي. وكتب في المقدمة-الإهداء "الى الوالدة ندى حبيبي-أم سلام- والى شقيقتيّ جهينة وراوية وعائلتيهما والى الأحفاد وعموم آل حبيبي،والى زملاء ورفاق الوالد الراحل:إميل شكري حبيبي ،أهدي هذه الطبعة من مؤلفاته…تخليدا لذكراه" سلام إميل حبيبي(الناشر).

د.راوية حبيبي غنادري

الوزير مجادلة

البروفسور محمود غنايم

نص كلمة البروفسور محمود غنايم:ماذا يبقى من إميل حبيبي؟

"كان ذلك منذ ثلاثة عشر عاما في أحد مقاهي الناصرة، جلست وأحدَ الأصدقاء نسترد أنفاسنا بعد جنازة إميل حبيبي. أحد المشيعين اليهود يسألنا:كنت أتوقع يوم حداد وطني في الوسط العربي، أو في الناصرة على الأقل، لموت أديب وسياسي في قامة إميل حبيبي، ومشاركة جماهيرية أكثر اتساعاً، هل أنا مخطىء؟

ولم يكن مخطئًا.

هذا السؤال الذي أثاره شخص ينظر إلى ألوان الطيف العربي عن بُعد أثار بي وما زال تساؤلات عديدة حول ما تبقى من إميل حبيبي بعد موته؛ وماذا تعرف عنه الأجيال الشابة؟ واحتراماً لذكراه وتهيباً من موقعه على خريطة الأدب العربي لا أود أن أقارنه بما يحظى به لاعبُ كرة قدم أو مطربٌ "شبابي" من تأييد جماهيري.

لقد وصل إميل إلى قمة عطائه السياسي الجماهيري عام 1972، إذ اعتزل العمل البرلماني وقلّ بشكل ملحوظ نشاطُه الخطابي على المنابر. أذكره وأنا غلام في الستينات وهو يهزّ سامعيه ويحرّك الجماهير بأسلوبه الخطابي الذي أصبح مدرسة لها مميزاتُها وطابعُها. عكف حبيبي بعد ذلك على العمل السياسي من خلال مؤسسات الحزب الشيوعي وأطره القيادية، وانشغل في الكتابة السياسية مبتعداً تدريجياً عن منابر الخطابة. أما همُه الأساسي فتوجّه منذ السبعينات إلى الأدب. 

وفي غفلة من الزمان، كان النقد ضده يتصاعد ليصل إلى شبابنا أبناءِ العشرينات والثلاثينات الذين عرفوا حبيبي السياسي. أما حبيبي الأديب فبقي محصوراً بين تلك الفئة القليلة التي تقدّر الأدب الطليعي وتهتم به.

هذه الفكرة، حول فردية حبيبي وطلائعيته، أعجبت بها، ولا أدري كيف تسللت إلى كتاباتي حول أدبه. هي فردية حبيبي في حياته وفي أدبه، جعلته شخصية يصعب تفهمُها بسهولة. أو كما يقول نقاد الأدب: شخصية مدوّرة تستدعي إلى الذاكرة شخصيةَ أحمد عبد الجواد في ثلاثية محفوظ، رغم ما بينهما من فروق واضحة. ولذلك لم يكن غريباً أن حبيبي في كل حركة ونأمة كان يقيم الدنيا ولا يقعدها، وكان، كما قيل عن المتنبي، مالىء الدنيا وشاغل الناس. بقدر أحبائه، كان  له خصوم وأعداء.

كنت أحد أعضاء لجنة التحكيم التي منحت إميل عام 1992 جائزة إسرائيل في الأدب، وقد اتصل بي أستاذي ساسون سوميخ وحدثني بالأمر، وطلب إلي أن أقدّم المبررات لاستحقاقه الجائزة أمام أعضاء اللجنة الثلاثة الآخرين، الذين لم يعرفوا حبيبي إلا من خلال ما ترجم إلى العبرية. ولم تكن جلسة سهلة لأقنع أساتذة لم يروا إلا جوانب قليلة من جوانب هذا الأديب، خاصة وأن أحد الجوانب الرئيسة في أدب حبيبي هو أسلوبُه الذي يغوص عميقاً في غياهب التراث العربي، ويمتد ليشمل مجالات وأنواعاً أدبية مختلفة ومستويات لغوية متعددة. وهذا الجانب يخسر الكثير من أهميته عبر الترجمة الخائنة، مهما كانت هذه الترجمة أمينة ومهما كان المترجم عبقرياً كأنطون شماس. وألقت اللجنة أسئلة موضوعية في غاية الصعوبة مقارنة حبيبي بأدباء عبريين من الصف الأول. ثم قررت لجنة التحكيم بالإجماع منحَ الجائزة لحبيبي.

ولا أريد العودة إلى ما ثار حول ذلك الحدث من جلبة ونقاش، ولكني أعود ثانية إلى قرار لجنة التحكيم الذي طلب إلي صياغته بالعربية، ثم ترجم إلى العبرية. ومما جاء في ذلك القرار ما يلي:

وقد ارتأت اللجنة أن إميل حبيبي يستحق هذه الجائزة على نتاجاته القصصية والروائية الصادرة في إسرائيل، والتي تستمد موضوعاتِها من التجربة الخاصة لعرب هذه البلاد. لقد سجلت مجموعُته القصصية الأولى "سداسية الأيام الستة" (1969) بصدق وأمانة مشاعر الحزن المشوبة بالفرحة المكبوتة التي صبغت لقاءَ عرب إسرائيل بإخوانهم عبر الحدود في عام 1967. أما رواية "المتشائل" (1974).. فتصف بأسلوب بالغ السخرية، الضائقةَ التي يعيشها المواطن العربي في إسرائيل وهو يصطرع بين ما يطالب به من ولاء تام للدولة، وبين أحاسيسه المكبوتة بعدم الانتماء والاغتراب.

وجاء كذلك في قرار اللجنة:

إن أسلوب حبيبي يتميز بالجدة والحذاقة.. وبفضل كتابات حبيبي تحولت القصة العربية المحلية من نوع أدبي هامشي وثانوي لتحتل الصدارة وتتمتع بتقدير واحترام كبيرين. فبعد أن كانت تئن هذه القصة تحت أعباء التبعية والتقليد صار طابعُها الأصالةَ والتفرد. إن إنتاجه جزء لا يتجزأ من الأدب العربي الحديث، وفي نفس الوقت يعتبر، في لغته الأصل، العربية، وفي ترجمته العبرية، مساهمةً حقيقية وأصيلة في الأدب الإسرائيلي المعاصر.

هكذا كان القرار شهادة على أصالة حبيبي، تفرده وصدقه في طرح قضايا شعبه، وعلى خروجه بالقصة العربية المحلية من إسارها لتصبح جزءاً لا يتجزأ من الأدب العربي الحديث والأدب الإسرائيلي المعاصر. إنها شهادة مشرّفة  وناصعة بحق أدب إميل حبيبي، وكانت لطمة لليمين الإسرائيلي الذي فقد توازنَه إزاء هذا الاعتراف بالأدب العربي على أعلى المستويات. أما الجوانب الأخرى التي لوّح بها كتاب عرب في الجهة المضادة فتنبع في رأيي من عدم فهم حبيبي كأديب في غاية الصدق مع شعبه وفنه، ولو قرأ المعارضون قرار لجنة التحكيم جيداً لعرفوا لماذا قرر حبيبي أخيراً أن يتسلم الجائزة. فلم تشكك لجنة الجائزة في موقفه تجاه شعبه، بل على العكس، أبرزت ذلك الموقف، رغم ما تقوّل المتقولون زوراً وبهتاناً. وها نحن ننصف حبيبي ثانية عبر وزارة العلوم والثقافة ونفردَ له صفحة ناصعة في مجمع اللغة العربية لإخلاصه لمبادئه وشعبه.

كان حبيبي يتظاهر بأنه لا يقيم وزناً للنقد، وإن كان، في رأيي، قد قرأ كل ما كتب عنه. ولذا أقول إن أهمية حبيبي تكمن في قدرته على التغيّر، بحيث تحوّل ذلك إلى هاجس دائم في حياته وأدبه؟ لقد ورد عدم التغير كسبّة يوجهها للنظام الإسرائيلي في رواية "المتشائل"، حيث يتكرر طرد يعاد الثانية كما طردت يعاد الأولى. ولكن هذا النظام الذي يغير في أساليبه بقي يتشبث بأيديولوجية الاحتلال وفكره.

ويتكرر هذا الموقف مع العمة نزيهة العجوز في "سرايا بنت الغول" التي تفتَّش وتعرَّى في مطار بن غوريون، فيعلّق حبيبي على عدم تغير مفاهيم السلطة الإسرائيلية بقوله: "فإلى متى يوهمهم طيشهم أنهم يستطيعون أن يحملوا ما لا يحمله سوى الخالق عز وجل من صفة -أنه لا يتغير ولا يتبدل: يعرّونهم ويبعدونهم."

والتغير هو السمة التي يسبغها الراوي/الكاتب على عمه إبراهيم، الذي يظهر في سرايا كإحدى الشخصيات الرئيسة. وهذه السمة هي التي جعلته يحب ذلك العم ويلتصق به: "عمه إبراهيم، كان يغيب غيباته. ثم يعود محملاً بمدهشات جديدة تتغير وتتبدل من عودة إلى عودة. وكان هو نفسه، يتغير ويتبدل."

لقد كان إميل حبيبي في الحلم والواقع، في اليقظة والنوم، وحيداً ومع الناس، يعيش مع شخوص قصصه ورواياته، يحاورها ويجالسها ليصبح الأدب كل عالمه. ولسوف يفرد التاريخ صفحة ناصعة لإميل الأديب، لإخلاصه لفنه وضميره الأدبي، ومن هنا لا يسعني إلا أن أشكر الوزير السيد غالب مجادلة على هذا التكريم لحبيبي".

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *