بقلم الشيخ رشاد أبو الهيجاء
الاختلاف ليس داعيًا إلى القطيعة
لا يكاد يمرّ يوم إلا ونسمع فيه شكوى من خلاف وقع بين شخص وآخر: بين ابن وأبيه، أو بين الإخوة، أو الجيران، أو زملاء العمل، بل أحيانًا بين روّاد بيوت العبادة. وغالبًا ما يتحوّل هذا الخلاف – مهما كان بسيطًا – إلى قطيعة، أو إلى نميمة وغيبة، والطعن في الأعراض، وهي سلوكيات تعكس فهمًا خاطئًا لطبيعة الحياة.
فالاختلاف في الرأي أمر طبيعي، بل سنة من سنن الله في خلقه. وقد أرشد النبي ﷺ إلى قيمة الصبر والتعامل مع الناس بروح طيبة، فقال:
«مَن خالطَ الناسَ وصبر على أذاهم خيرٌ ممن لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم».
وفي هذا دلالة واضحة على أن الصبر والرفق أولى من الخصومة والقطيعة، وهو منهج الصالحين والأتقياء.
ويروي يونس بن عبد الأعلى قوله عن الإمام الشافعي:
«ما رأيت أعقل من الشافعي… ناظرته يومًا في مسألة، ثم افترقنا، فلقيَني فأخذ بيدي وقال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟»
وما أعظم هذا الموقف الذي يجمع ولا يفرّق، ويؤسس لثقافة الاختلاف بلا شحناء.
الألفة قوة… والفرقة ضعف
حاجتنا إلى المحبة والوئام كحاجتنا إلى الماء والهواء، فاجتماع الكلمة قوة، وتفرّقها ضعف. وقد وصف القرآن الكريم نعمة الألفة بقوله تعالى:
{وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم}.
فرعاية الله تحيط بقلوب تجتمع على المحبة، وتبتعد عن الخصام.
كما قال رسول الله ﷺ:
«إن الله يرضى لكم ثلاثًا… وأن تعتصموا بحبل الله ولا تفرّقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال».
فالاعتصام بوحدة الصف دليل إيمان، والتفرق سبب ضعف، كما قال أحد العلماء:
«التآلف سبب قوة، والقوة سبب التقوى، والتقوى حصنٌ منيع».
نماذج من الصحابة في إدارة الاختلاف
اختلف الصحابة في مسائل كثيرة، لكنهم كانوا يرجعون إلى شرع الله دون حقد أو ضغينة. وبعد وفاة النبي ﷺ، وامتناع بعض القبائل عن الزكاة، قال أبو بكر:
«والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة… لو منعوني عناقًا كانوا يؤدّونها لرسول الله لقاتلتهم على منعها».
فأقرّ عمر رأي أبي بكر لاحقًا بقوله:
«فعرفت أنه الحق».
هكذا كان اختلافهم يفضي إلى الحق، لا إلى النزاع.
الاختلاف قدر… لكن البغضاء اختيار
قال تعالى:
{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك}.
فالاختلاف قدر، ولكن البغضاء والقطيعة اختيار. ومن رحمهم الله لا يتباغضون ولا يتدابرون، بل يعتصمون بقوله تعالى:
{واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا}.
ولا تجتمع الكلمة إلا بالكلمة الطيبة، التي تجمع ولا تفرّق، كما قال تعالى:
{ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.
اتباع الهوى… أصل كل خلاف مؤذٍ
من أكبر دوافع الخلاف الذي يفسد القلوب: اتباع الهوى. فالإيمان لا يكتمل إلا إذا وافق الهوىُ هديَ النبي ﷺ، كما قال عليه الصلاة والسلام:
«لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به».
وقد حذر الله من اتباع الهوى فقال:
{ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}.
وللعلماء كلامٌ جامع في ذلك؛ قال العز بن عبد السلام:
«من أتى شيئًا مختلفًا في تحريمه معتقدًا حِلَّه، لا يُنكر عليه».
كما اتفق العلماء على أنه لا يجوز لمجتهد أن يزجر مجتهدًا آخر في مسائل الخلاف، لأن كلًّا منهما مأجور على اجتهاده.
النبي ﷺ يحسم الخلاف في مهده
كان النبي ﷺ يكره الخلاف الذي يؤدي إلى فرقة، ففي حديث عبد الله بن عمر:
أنه ﷺ خرج وقد بدا عليه الغضب حين سمع رجلين اختلفا في آية، وقال:
«إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب».
ختامًا
إن الاختلاف بين الناس طبيعي، ما لم يتحوّل إلى خصومة أو شحناء. فإن اختلفت الآراء رُدّ الأمر إلى الله ورسوله، وتُجُنِّب الهوى، حتى يُكتب للناس الاجتماع والسلام.





