العمل الجماعي والتطوعي: ركيزة بناء المجتمعات وميزان الثقل يوم القيامة
بقلم: الشيخ رشاد أبو الهيجاء
العمل الجماعي والتطوعي ليس مجرّد نشاط ثانوي أو خيار رفاهي، بل هو من ضرورات الحياة ومن أهم أسس بناء المجتمع المثالي. فحين تتكاتف الجهود وتتضافر الأيدي من أجل الخير، تبرز القيم الأصيلة التي تجمع أفراد المجتمع وتعبّر عن صدق الانتماء والإخلاص في العطاء.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.”
هذا الحديث الشريف يلخص فلسفة العمل الجماعي، حيث يتكافل الناس ويتعاونون بقلوب خالصة لا رياء فيها، بعيدًا عن طلب الشهرة أو المدح، بل طلبًا لمرضاة الله وحده.
ويؤكد القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى:
“لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا.”
وفي قوله: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.”
إن الأعمال الخيرية، كإغاثة الملهوف، ورعاية اليتيم، ومساعدة الأرملة، وبناء المساجد والطرقات، تكون أشد أثرًا وأعظم نفعًا عندما تُؤدى بروح جماعية. فقد كان السلف الصالح يقدّرون هذه الأعمال تقديرًا بالغًا، حتى قال الإمام الحسن البصري:
“لأن أقضي لأخٍ حاجة أحب إليّ من أن أعتكف شهرين.”
ومن المهم اغتنام الفرص عند توفرها؛ فقد لا تتكرر. فالمبادرة إلى فعل الخير تعود بالنفع على النفس والأهل والذرية، كما يُروى عن أحدهم حين سُئل عن سبب أعماله الخيرية فقال:
“أعمل لنفسي وعيالي.”
وحين استُشكل عليه ذلك، استشهد بقوله تعالى:
“وكان أبوهما صالحًا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمةً من ربك.”
وقد كان السلف يحافظون على جوارحهم في شبابهم، فحفظها الله لهم في شيخوختهم. لذلك لا يُستهان بأي عمل صالح، مهما بدا صغيرًا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طليق.”
وقال أيضًا:
“إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق.”
وسُئل: “أيّ الإسلام أفضل؟” فقال:
“أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.”
وقد عظّم الإسلام كل عمل نافع، فجعل من زرع الأرض وغرس الشجر ورفع الأذى عن الطريق، صدقة يُثاب عليها المسلم. قال رسول الله:
“ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة.”
وفي حديث آخر:
“كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة.”
وقد أدركت خديجة رضي الله عنها قيمة الأعمال الخيرية وأثرها على المكانة عند الله، فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين عاد مرتجفًا من غار حراء:
“كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَل، وتكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق.”
أخي الكريم، أختي الكريمة، إن قيمة المرء الحقيقية يوم القيامة لا تُقاس بالمظهر أو الجاه، بل بالصدق والإخلاص والعمل الصالح، فقد قال رسول الله:
“إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة.”
وتلا قوله تعالى:
“فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا.”
وفي المقابل، قد يُثقل ميزان رجل نحيف بسيط كعبد الله بن مسعود، الذي سخر منه الصحابة لنحافة ساقيه، فقال رسول الله:
“والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحد.”
قال تعالى:
“فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون.”
وقال أيضًا:
“ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون.”
فليحاسب الإنسان نفسه قبل أن يُحاسب، ولينظر ماذا قدم وماذا ترك من آثار، قال تعالى:
“إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين.”
وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
“حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن تُوزنوا.”




