حلّ علينا العام الهجري الجديد 1447، ونحن نعيش في واقعٍ تتقطع فيه القلوب من شدة الألم، وتغص فيه أرواح أصحاب الضمائر الحيّة، الذين لا تزال مرارة الظلم تلازم وجدانهم، ولن تغادره حتى يحلّ الأمن والسلام، وتعيش الطفولة والنساء والشيوخ والأبرياء في أمان وكرامة.
وإذ نستقبل هذا العام الجديد، فإننا لا نقف عند عتبة التقويم فحسب، بل نقف مع حدث الهجرة العظيمة وقفة تأمل وتدبر، نستقي منها الدروس والعِبر، لا لنروي حكايات الماضي بمعزل عن حاضرنا، بل لنجعل من ماضينا نبراسًا لمستقبل يملؤه العزّ والكرامة، كما أراد لنا خالقنا جلّ جلاله، القائل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾.
من الهجرة النبوية نبدأ بإعلان الولاء لله ولرسوله، هذا النبي الكريم الذي لولا تضحياته لما كنّا اليوم نعتزّ باتباعه. لقد حُورب وهاجر من أجل رسالة عظيمة، هي رسالة الرحمة والحرية والكرامة، حرّر بها العقول من الشرك، والأجساد من الرق، وجعل العباد إخوة في الله، تجمعهم المحبة ونصرة الحق.
كانت كلمته الأولى “قولوا لا إله إلا الله تفلحوا”، ولا تزال هذه الكلمة تنير درب الملايين حتى اليوم. لكنه لم يصل إلى ذلك إلا بعد مشقّة عظيمة، فقد ضُيّق عليه، وطورد هو وأتباعه، وواجه حملات إعلامية شعواء اتهمته بالجنون والسحر والكهانة. لكنه صمد وثبت، وقال لعمه: “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته…”.
وحين اشتدّ أذى قريش، وبلغ الحصار ذروته، جاء الأمر الإلهي بالهجرة، تلك الرحلة التي لم تكن مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل كانت بداية لبناء مجتمع جديد قائم على الإيمان والعدالة والمساواة. خرج النبي من مكة وهو ينظر إليها ويقول: “والله إنكِ لأحب أرض الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منكِ”، ولكنه خرج لأنه حمل أمانة أثقل من مشاعره، رسالة أغلى من كل عاطفة.
في لحظةٍ تاريخية داخل غار ثور، وحين قال له أبو بكر خائفًا: “لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا”، ردّ النبي بثقة تامة بربه: “يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما”. وفي ذلك قال تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾.
ومن هنا تبدأ معية الله للمظلومين، تلك المعية التي تجعل من بيت عنكبوت أهون البيوت درعًا تحمي نبيًا من جيوش الظلم والطغيان.
لقد كانت الهجرة ذروة في التضحية والعطاء، ودرسًا خالدًا في أن الرسالات الكبرى تحتاج إلى تضحيات عظيمة، وأن الصبر طريق النصر، كما قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾.
نستقبل عامنا الجديد، ونحن أحوج ما نكون إلى تجديد العهد مع الله، والاقتداء بسيد الخلق، وتذكير أنفسنا وأجيالنا أن التغيير لا يأتي بالأمنيات بل بالصبر والثبات، وأن الكرامة تُنتزع ولا تُمنح، وأن العدل لا يتحقق إلا بجهد المخلصين، وبدعاء الصادقين.
كل عام وأنتم إلى الله أقرب، وعلى درب نبيّه أثبت
.