د. جوني منصور “المدينة الفلسطينية بين الاختفاء ومحاولة الولادة من جديد”

مراسل حيفا نت | 28/04/2012

تقرير: ايمان محاميد

تصوير: وائل عوض

 

قدم الباحث والمؤرخ الدكتور جوني منصور، محاضرة دعا إليها المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني بحيفا ونادي حيفا الثقافي الذي تأسس حديثا، تحت عنوان "المدينة الفلسطينية بين الاختفاء ومحاولة الولادة من جديد". وذلك يوم الثلاثاء الماضي في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة.

افتتح وقدمها الأديب والمربي الأستاذ فتحي فوراني قائلا: لهم مدينتهم وتاريخهم ولغتهم وروايتهم ولنا مدينتنا وتاريخنا وروايتنا. للمدينة الفلسطينية دورها في بناء المجتمع الفلسطيني وبلورة الهوية الاجتماعية والثقافية والسياسية لشعبنا، التي تضرب جذوره في بحر ذلك الوطن، وفي ذاكرة التاريخ.

وللمدينة الفلسطينية نكهتها ومذاقها الخاص الذي يفوح من شذى برتقالها وليمونها وزيتونها وسنديانها وصنوبرها وكرملها وبحرها وبرها وسهولها وجبالها.

للمدينة الفلسطينية مبدعوها، كتابا وشعراء وعمالا وأطباء ومؤرخين ومفكرين وممثلين وروادا ساهموا في تكوين المشهد الثقافي والهوية القومية. للمدينة الفلسطينية شوارعها وأزقتها ولها مسارحها وثقافتها ونواديها ومقاهيها الثقافية.

للمدينة الفلسطينية مقدساتها مساجدها وكنائسها وآثارها التاريخية والحضارية. للمدينة الفلسطينية إنسانها وتراثها وتاريخها وحضارتها، ولغتها العربية الجميلة سيدة اللغات، هذه هي المدينة التي تقف أمام العواصف والزلازل التي تستهف وجودها بشرا وحجرا وتاريخا وتراثا وحضارة.

وللمدينة الفلسطينية عيونها الكحيلة التي تتحدى الزوابع وتظل حارسة لهذا الوطن الجميل، هذه المدينة إنها زهرة المدائن وأجمل المدن، ما هو دورها في بناء الحركة الوطنية الفلسطينية وفي واجهة الحركة الاستعمارية البريطانية والصهيونية؟

ما هو دورها وما هي التحديات التي تواجهها؟ هذه التحديات تسعى إلى طمس معالمها وتفريق هويتها. أين حيفا ويافا نموذجا من هذه المعادلة الخبيثة؟ أين نحن، وما هو دورنا في الحفاظ على هوية المدينة، ذات الملامح العربية والفلسطينية؟

وحماية وجهها التاريخي والحضاري؟ ما هو دورنا عن هذه المسائل وغيرها؟ يسر المنتدى الثقافي الحيفاوي أن نلتقي هذا المساء مع د.  جوني منصور صياد الوثائق التاريخية، ونبّاش الأرشيفات التاريخية الذي يحمل قنديله التاريخي لإزالة القناع عما لا نعلم.

والذي يحمل فرشاته التاريخية لإزالة التراب والغبار عن وجه المدينة طموحا بإعادة الضوء إلى ملامحها الفلسطينية الأصلية والأصيلة، يسرنا أن نلتقي مع حارس التاريخ د. جوني منصور ..

تمحور الدكتور جوني  منصور في محاضرته على المدينة الفلسطينية آخذا منها يافا وحيفا نموذجا وبيّن بالصور والمعلومات والحقائق أنّه في هاتين المدينتين الساحليتين عاش الفلسطينيون حياة مدنية متكاملة ومتطورة، مبينًا المراحل والمحطات المهمة في تاريخ المدينة.

فشهدت المدينة الفلسطينية حراكا اقتصاديا، تجاريا، ثقافيا ورياضيا، فقام الدكتور بتسليط الضوء على التحولات والتغيرات التي عصفت بالمدينة الفلسطينية في ميادين مختلفة سواء اقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها.

تحدث عن الوضع القائم حاليا وما هو حال المدينة اليوم، وما هي المدينة التي أنشئت بعد ال 48؟ لم أتناول كل المدن الفلسطينية، سأتحدث عن بعض النماذج من خلال الفكر والرؤية لواقع المدينة.

 

ما قدمته المدينة الفلسطينية من ثقافة حياة اجتماعية اقتصادية لقاء حضاري ما بين بلد والوافدين، نتحدث عن القرن العشرين. وما يميز الحديث عن المدن الفلسطينية أنها موزعة في موقعين أساسيين: مدن الساحل بالأساس كحيفا ويافا، ومدن الداخل كصفد، طبريا، بيسان وبئر السبع.

لم أتحدث عن مدينة القدس لأن مدينة القدس فيها إشكالية معينة. والسؤال المركزي الذي يمكن أن يتبادر إلى ذهننا ما هي عوامل تطور المدينة الفلسطينية؟ ونأخذ مدينة حيفا كنموذج لأنها آخر مدينة فلسطينية أقيمت قبل ال 48.

امتداد المدينة كان امتدادا طوليا على الساحل وعلى منحدرات جبل الكرمل. عوامل تطور المدينة الفلسطينية حيفا نموذجا أو يافا أو أي مدينة أخرى هي شبكة مواصلات متطورة. بدأت عملية مد طرقات بين المدينة وغيرها من المدن، مد الخط الحديدي الحجازي، القطار، وهو خط مميز لأنه استطاع أن يربط بلاد الشام من دمشق وحتى المدينة المنورة.

كان هذا أحد أبرز العوامل في ربط المناطق الداخلية لبلاد الشام بساحل البحر الأبيض المتوسط، بمعنى خط داخلي. ثم رأت الحكومة العثمانية أن تربط هذا الخط من الداخل حتى الساحل، وربطه في مدينة حيفا، هذا الخط كان أحد المساهمات القوية جدا من حيفا، من مرحلة شبه بدائية إلى مرحلة متقدمة ومتطورة جدًا.

هنالك دور للميناء الحديث الذي أنشأته حكومة الانتداب البريطاني في مطلع الثلاثينات، وهو الموجود حاليا. علما أن هنالك ميناء عثماني موجود الجهة الشرقية قريب من محطة القطار  الحجازي. في نفس الوقت التي أخذت مدينة حيفا في التطور أخذت مدينة عكا تفقد من دورها لصالح حيفا.

من العوامل الأخرى والتي يمكن اعتبارها بمساهمة الألمان، الهيكليين التمبرليين، الذين وصلوا إلى حيفا  1869 وأقاموا لهم الكولونية الألمانية، حي كامل  في الجهة الغربية من المدينة وعمليا إقامة هذا الحي كانت وفق الطرق الحديثة التي كانت متبعة في المانيا.

من ناحية الفن المعماري، الخدمات، الألمان الذين بنوا حيهم لم يكونوا بحاجة إلى السكان المحلييين، لأن الألمان زودوا أنفسهم بكل ما يحتاجونه. وبتطوير حياتهم المادية من خلال العمل في الزراعة والصناعة والبناء، كان لوجودهم في حيفا بالغ التأثير المباشر وغير المباشر، واهتموا بتطوير شبكة المواصلات والطرقات، وإدخال الطرق الزراعية إلى المدينة..

المنطقة الصناعية التي أقامتها حكومة الانتداب البريطاني في الجهة الشمالية الشرقية من حيفا وما يعرف اليوم بالمفراتس، أقيمت في سنوات ال 30 وهي موقع صناعي مهم، كمعامل تكرير البترول في المنطقة الصناعية، والتي كانت تتزود بالنفط الخام من مصدرين الأوّل من كركوك في العراق والثاني من السعودية مما وفر آلاف فرص العمل.

وفي أعقاب ذلك شهدت مرافق اقتصادية أخرى ازدهارًا كبيرا. وكان للميناء دور هام لأنه كان مرفقا اقتصاديا هاما جدا والأمر الذي دفع حيفا باتجاه العصر الحديث حيث تحول هذا الميناء إلى أحد المنافذ الهامة لاقتصاد الشرق الأوسط، خاصة النفط.

وما يتميز به المجتمع هو رغبة الشباب في العمل وهجرة القوى العاملة من فلسطين وخارجها، والهجرة الصهيونية التي وصلت إلى فلسطين، وبشكل خاص إلى حيفا وتحديدا الهجرة الخامسة التي ابتدأت في الثلاثينات، وكان هؤلاء المهاجرون من أصحاب الأموال الذين استثمروا أموالهم في الصناعات المركزية والمصالح المختلفة في المدينة، وهذا عامل مساهم في تطوير المدينة.

 

كانت حيفا في حقيقة الأمر ولا تزال مدينة مكونة من مدينتين منفصلتين عن بعضهما البعض رغم تداخل مبانيهما، مدينة عربية بما تبقى منها من بقايا، ومدينة يهودية. وثمة خطوط فاصلة بين المجتمعين وبين الأحياء لا نراها في العين المجردة ولكنها قائمة.

وتشير بعض النماذج إلى تطور حاصل في المدن، كبرج الساعة في مدينة يافا، وملاحظة هامة جدا هنا أن الاهتمام شمل مدنا فلسطينية أخرى وليس في يافا فقط، وإنما حيفا وطبريا وصفد. وكان الاهتمام بما نسميه الحيز العام، وهو عمليا السوق أو الشارع الرئيسي أو ميدان، وهو ساحة في وسط المدينة.

وعمليا كان اللقاء الإنساني بمختلف مكوناته الاجتماعي والاقتصادي وحتى الثقافي يتم في هذا الحيز. وهذه المساحات المفتوحة تدل بدون أدنى شك على شكل من أشكال انفتاح المجتمع.

ومع التطور العمراني والصناعي والحياتي تبدا المدينة بخلع ثوبها القديم وتفرد مساحات أكبر للحيز العام، ففي يافا نفسها نجد السوق عمليا، رغم أنها سوق تقليدية وهي ما يعرف باسم البازار، تعطي مجالا لهذا اللقاء الواسع ما بين الشرق والغرب.

كانت المدينة الفلسطينية فرصة ومجالا لهذا اللقاء الحضاري بين الشرق والغرب. وثمة حيز آخر لعب دورا كبيرا في المدينة الساحلية خلال سنوات الانتداب بشكل خاص وهو المسابح، فقد شاعت المسابح في الفترة العثمانية المقتصرة على الرجال فقط.

وشاطئ معين أتخذه كنموذج وهو شاطئ العزازية، لصاحبه ومالكه عزيز الخياط. وما يميز هذا الشاطئ أنه شاطئ مخصص للعائلات، وشاطئ آخر في حيفا في منطقة تل السمك هو شاطئ البوطاجة والذي يملكه أحد أثرياء حيفا، والشاطئ الثالث الذي أشير إليه هو شاطئ أبو نصور الواقع عند مستشفى الحكومة، رمبام اليوم، وهو شاطئ شعبي مفتوح وكان يستأجره جبران أبو نصور الذي كان يعمل منقذا فيه لأنه كان من أشهر وأمهر المنقذين في ذلك الوقت. والكازينو في بات جاليم كان مع بركة وأصبح في سنوات ال 40 كبرك السباحة الأوروبية.

حيفا مدينة الثقافة، فلا تنمو الثقافة بدون مثقفين الذين يعملون في حراك ونشاط ثقافي. لا يمكن أن تبقى المدينة البشرية بأجسام حية فقط بدون أن تكون هنالك جوانب ثقافية، تلبية لاحتياج داخلي لدى الإنسان. فا

لإنسان الفلسطيني مكافح، مناضل، مقاوم لأشد الصعوبات ولديه الرغبة الدائمة لتحسين ظروف حياته، ولذا بدأت عملية جذب لكثير من المفكرين والأدباء والكتاب، ولم يأتوا إلى حيفا صدفة، بل جاؤوا إلى مدينة ناشطة وفعالة، يعيش فيها مجتمع يتمتع بحراك قوي جدا.

وتأسست عدد من الصحف مثل صحيفة الكرمل والنفير، فكانت بينهما اختلافات كبيرة في وجهات النظر. وكان توجه جريدة الكرمل التي أسسها نجيب نصار توجها قوميا، نحو عروبة تدافع عن أرض فلسطين وعن الفلاح الفلسطيني.

وبالمقابل جريدة النفير التي أسسها إيليا زكا وكانت ذات ميول صهيونية. ومع التطور والاحتياجات زاد عدد الصحف حتى بلغ أكثر من 35 صحيفة، وبقيت جريدة وحيدة تصدر في البلاد بعد ال 48 هي الاتحاد.

وفي يافا كذلك لعبت الجرائد دورا هاما هناك وأهمها جريدة فلسطين التي ساهمت في تغذية الحركة الوطنية الفلسطينية، وإلى جانب الجرائد صدرت مجلات أدبية كمجلة النفائس العصرية، ومجلة الزهرة. 

وانتشرت هذه المجلات داخل فلسطين وخارجها، وهذا يعني أننا صدّرنا ثقافة ولم نستوعب فقط ثقافة. كما شهدت هذه المدن حركة مسرحية قوية جدا وخاصة مدن الساحل، لان فلسطين هي الموقع والرابط الذي كان يربط مصر وسوريا ولبنان،

ونعرف مسرح الحمراء الذي تطور وكان الناس يخرجون لمشاهدة المسرحيات فيه، وأصبح تعبيرا عن التحول والتطور الاجتماعي الهام جدا على الصعيد الثقافي، فقد انتشرت في حيفا وعرضت أحدث المسرحيات والتمثيليات والأفلام على مسارحها وفي كباريهات وصالات العرض.

 

وحضرت شخصيات مسرحية وسينمائية وغنائية وأدبية مرموقة إلى حيفا من لبنان وسوريا ومصر والعراق، من بينها يوسف وهبي عميد المسرح العربي، وفريد الأطرش وغيرهما.

وتشكلت في حيفا عشرات الجمعيات الخيرية والأهلية والتعاونية موفّرة الخدمات الإنسانية والاجتماعية والثقافية الأساسية، وشهد المجتمع العربي في حيفا نشاطا رياضيا مكثفا، حيث تميزت أندية المدينة بعدد من الفرق الرياضية كفريق كرة السلة التابع لمدرسة الساليزيان وغيرها..

وفي القسم  الثاني من المحاضرة تطرق الدكتور جوني منصور إلى أن العصابات الصهيونية هدمت الحياة المدنية في فلسطين، إذ قامت بتهجير العرب منها، وهدم العديد من المباني والمنشآت لكي تضمن عدم عودة المهجرين إلى مدينتهم.

كل ذلك من خلال خطط عسكرية محكمة وتحت نظر وبرعاية الجيش البريطاني، الذي كانت له مساهمة كبيرة في فرض التفوق العسكري الصهيوني.

وتشكلت مقاومة حيفاوية فلسطينية للدفاع عن المدينة التي بدأت تتعرض لهجمات العصابات اليهودية، وفي مقدمتها عصابتا "الهاغاناه  والإيتسيل".

وبعد إعلان قرار التقسيم نفذوا خطة أطلقوا عليها اسم "المقص" (مسبرايم) حيث انقضت قواتهم على شكل مقص في مسارين: الأول من حي الهدار اليهودي باتجاه حي وادي النسناس العربي ومنطقة البلد، والثاني من طرف الهدار باتجاه بيت النجّادة في حي الحليصة.

وحصل اليهود على دعم من الإنكليز لأن الأحياء العربية تعرضت لقصف مدفعي وإرهاب نفسي وتدمير الممتلكات، ما أدّى إلى انتشار حالة الفزع والرعب في صفوف العرب سكان المدينة الذين اندفعوا إلى الميناء ومن هناك تمت عملية التهجير بدعم الإنكليز المشرفين على الميناء ومنافذ حيفا المختلفة.

وعندما تمكنت العصابات اليهودية من تحقيق نصرها على المقاومين الفلسطينيين فرضت قيادة عصابة الهاغاناه على المواطنين العرب شروطًا مجحفة وقاسية للهدنة لكنّهم رفضوها.

فتم حصر من تبقى من العرب في حيفا في حي وادي النسناس كما تم تفريغ الأحياء الأخرى من العرب. لقد كان لحدث النكبة الأثر البالغ في زعزعة مبنى المدينة الفلسطينية بشكل عام، وحيفا بشكل خاص.

وتطرق الدكتور منصور في القسم الأخير من المحاضرة إلى المدن الفلسطينية التي تطورت داخل فلسطين بعد النكبة مثل الناصرة وأم الفحم وشفاعمرو وغيرها.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *