“واقعنا غير”
بقلم: الشيخ رشاد الو الهيجاء
في ظلّ هذا الواقع الذي نعيشه – محليًا وعالميًا – تتداعى أمامنا تساؤلات ملحّة: ما الذي تغيّر؟ كيف وصلنا إلى زمن تبرز فيه مظاهر وسلوكيات غريبة، لم تكن مألوفة في سيرة أسلافنا الأولين؟
لقد مرّت أمم قبلنا بمراحل مشابهة عبر التاريخ، لكننا نُدرك اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن السبب الأعمق لهذا التغيّر هو الابتعاد عن القيم الرفيعة التي بناها الرعيل الأول، وسادت بها أمتنا. فالتحوّل في حال الأمة إنما هو انعكاس لتحوّل ما في نفوس أبنائها، كما قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾.
القيم الرفيعة، التي تحمل في طياتها معاني العدل، والرحمة، والتقوى، والخشية من الله، هي الأساس الذي تبنى عليه الشخصية السليمة. هذه القيم لا تختص بفئة دون أخرى؛ بل يشترك فيها الكبير والصغير، العالم والبسيط، إذ تنطلق جميعها من قوله تعالى:
﴿ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾.
الخوف من الله والشعور بعظمته وقدرته يزرع في النفس الصدق، والعفة، والعدل، والأمانة، ويبعد الإنسان عن الغش، والحسد، وسوء الظن، ويجعله ساعيًا للخير، بعيدًا عن الفواحش، محبًّا للناس، ومتعاونًا معهم على البرّ والتقوى، كما قال تعالى:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾.
لقد أمضى رسول الله ﷺ أكثر من عشرين عامًا في ترسيخ هذه القيم في المجتمع، وقال:
“إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”.
لم تكن لديهم شعارات ولا مواقع تواصل، بل كانت حياتهم اليومية ميدانًا للتنافس على الخُلق والفضيلة، فبنوا حضارة راقية وقيادة عادلة نفتقدها اليوم في ظلّ من لا يخشون الله، ويتلاعبون بآياته وأحاديث نبيّه لتبرير الظلم والفساد.
قيم في ميدان الواقع
في عهد الخليفة أبي بكر الصديق، عيّن عمر بن الخطاب قاضيًا، فمضى عامٌ دون أن تُعرض عليه قضية واحدة، فطلب إعفاءه من المنصب لأنه لا يستحق الأجر من بيت مال المسلمين. فقال له أبو بكر: “أتريد أن تُتركني لوحدي؟! والله لا أعفيك”.
لم يكن المنصب آنذاك تشريفًا، بل تكليفًا، والمسؤولية عبء ثقيل. أما اليوم، فنجد السعي نحو المناصب فقط للوجاهة والمكاسب، لا للخدمة والعطاء.
ومن مواقف عمر بن الخطاب الشهيرة أنه سمع امرأة تقول لابنتها: “اخلطي اللبن بالماء”، فقالت الابنة: “ألم تسمعي منادي عمر؟”، قالت الأم: “إن عمر لا يرانا”، فأجابت الابنة: “إن لم يكن عمر يرانا، فرب عمر يرانا”.
تأثر عمر بهذا الموقف، فخطبها لابنه عاصم، وأنجبت حفيدته التي ولدت الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز. هكذا تصنع القيم مصير الأمم.
وفي موقف آخر، حين حلّت المجاعة في عام الرمادة، جاءت قافلة لعثمان بن عفان محملة بالأرزاق، فعرض عليه التجار أرباحًا مضاعفة، فقال: “لقد أعطاني الله أكثر: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها”، فتصدّق بالقافلة كلها في سبيل الله. هكذا كانت النخوة، لا من يستغلون الحاجة للتحكم بلقمة الناس، وقد توعّدهم الله بقوله:
﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾…
خاتمة
ما نحتاجه اليوم هو العودة إلى تلك القيم: أن نعظّم الخالق لنُسعد المخلوق، أن نزرع في قلوب أبنائنا التقوى والصدق، وأن نعيد للوظيفة العامة معناها الأصيل: خدمة الناس لا تسلّق المناصب.
فالمجتمعات تُبنى بالقيم لا بالشعارات، والنهضة تبدأ من الفرد حين يخاف الله ويعلم أن “رب عمر يرانا”.