في هذه الأيام المباركة من شهر ذي القعدة، وعشية العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، تتوافد وفود الرحمن إلى البيت العتيق، استجابة لأمر الله تعالى لإبراهيم الخليل ولكل مؤمنٍ إلى يوم القيامة، للوقوف وقفات تأمل وخشوع، وفرصة سانحة لغفران الذنوب. قال تعالى:
“وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ”
وما تجتمع الوفود من جميع أسقاع الأرض، بألوانها ولغاتها المختلفة، إلا لتلبية النداء لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، ألا وهو الحج، الذي فرضه الله تعالى على المستطيع، فقال:
“وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ”
كما قال رسول الله ﷺ:
“أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا”.
فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال ﷺ:
“لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم. ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه”.
ويطمع الحاج، من خلال أدائه لهذا الركن العظيم، أن يعود نقياً من الذنوب كما ولدته أمه، فعليه أن يجتهد ليبلغ مرتبة “الحج المبرور”. قال رسول الله ﷺ:
“العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”.
والحج المبرور له تعريفات عديدة، منها: أن يخلو من الرياء والسمعة والرفث والفسوق، لأن ذلك يحبط أجر الحاج. قال تعالى في الحديث القدسي:
“أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه”.
ولذا كان من دعاء رسول الله ﷺ:
“اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة”.
فالعبادات لا تُقبل إلا إذا كانت خالصة لوجه الله، وخاصة الحج الذي لا تُؤخذ مناسكه إلا عن رسول الله ﷺ القائل في حجة الوداع:
“لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه”.
وهذا الحديث فيه إشارة واضحة لكل من قصد البيت الحرام أن يتحلى بأخلاق الحج، وأن يحرص على مغفرة ذنوبه، فقد تكون هذه الحجة هي الأخيرة لأسباب متعددة. فالرسول ﷺ لم يحج بعد حجة الوداع، لأنه توفي بعد عودته منها بأيام معدودة.
وقد أراد لنا ﷺ اتباعه في أداء المناسك لا ابتداعها، وهذا ما جسّده الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أقبل على الحجر الأسود فقال له:
“أما والله إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ استلمك ما استلمتك”.
ثم من ملك الزاد والراحلة وكان قادراً على الحج فعليه أن يبادر إليه، قال رسول الله ﷺ:
“تعجلوا في الحج (الفريضة)، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له”.
ونؤكد هنا أن المقصود بالتعجيل هو حج الفريضة، إذ إن الحج الفريضة مرة واحدة، وما عدا ذلك فهو نافلة، وقد تكون لقمة في بطن جائع خيرًا من نافلة، خاصة في أمةٍ يبيت بعض أبنائها يتلوون من شدة الجوع. والأسوأ من ذلك أن ترى حاجًّا ظالمًا، أو سارقًا، أو آكلًا لأموال إخوته من الميراث، أو عاقًا لوالديه!
ومن شروط صحة الحج أن يكون من مال حلال. قال ﷺ:
“إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)”.
ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟
قالوا: وهذا الحديث يشير إلى أن الحاج الواقف على جبل عرفات، رغم المشقة والتعب، قد لا يُقبل دعاؤه بسبب أكل الحرام.
فعلى الحاج أن يحصن عمله الذي يمحو الذنوب، بشرط أن يحفظ لسانه من الغيبة والنميمة والشتائم والكلام الفاحش، وأن يكف يديه عن البطش. قال تعالى:
“الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ”.
وقال ﷺ:
“من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه”.
وأجر هذا الركن من أركان الإسلام عظيم. فقد سُئل رسول الله ﷺ:
“أي الأعمال أفضل؟”
قال: “إيمان بالله ورسوله”.
قيل: ثم ماذا؟
قال: “الجهاد في سبيل الله”.
قيل: ثم ماذا؟
قال: “حج مبرور”.
ولا يسعني في ختام مقالي هذا إلا أن أذكّر أن هذه الأيام العشر من ذي الحجة أيام عظيمة، ينبغي تعظيمها والاجتهاد في الطاعات فيها، قال ﷺ:
“ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام”،
قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟
قال: “ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء”.
ولأهمية هذه الأيام أقسم الله بها فقال:
“وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ”.
ويسن للمقتدر أن يجهز أضحيته، فإذا نوى تقديمها طاعة لله فعليه أن يستعين بهدي رسول الله ﷺ، القائل:
“إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره”،
وفي رواية: “فلا يمس من شعره وبشره شيئًا”.
وأخيرًا، أسأل الله تعالى أن يبلغنا وإياكم عيد الأضحى المبارك، وقد عمّ السلام والوئام، ورفع الظلم عن المقهورين والمستضعفين.