لا أعداء دائمين في السياسة
جواد بولس
منذ لحظة إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، يعيش العالم حالة من القلق وعدم اليقين. وقد ساعدت تصريحاته المتتالية، في شؤون السياسة والاقتصاد، على ترسيخ هذه المشاعر وانتظار ما سيفعله في اليوم التالي.
سوف تتأثر منطقتنا، من دون أدنى شك، بسياسات إدارة ترامب المعلنة والمضمرة، وتشهد على هذا زيارته الحالية للملكة العربية السعودية ولدولتي قطر والإمارات. بيد أن الرهان على وجهة هذه التغييرات وطبيعتها وعلى نتائجها السياسية الحقيقية، غير ممكن حاليًا لأنه ما زال قيد التخطيط والإعداد.
من اللافت متابعة التفاعلات السياسية والنقاشات الجارية داخل إسرائيل حول علاقة “أمريكا الترامبية” الجديدة “بإسرائيل البيبية” الجديدة. ولقد كثرت التحليلات التي تتناول شخصية ترامب والتساؤلات ما إذا كان قد غيّر مواقفه تجاه إسرائيل بشكل استراتيجي، كما يخمن ويخشى بعض الإسرائيليين، أم أن الأمور بقيت كما كانت، وما نراه في هذه الأيام هو مشهد عابر لكنه حقيقي، تكمن دوافعه بنزق رئيس مصاب بنرجسية مفرطة، لم يتحمل بجاحة بنيامين نتنياهو تجاهه، ولا أسلوبه المراوغ والمستهتر بأطباع زعيم يشعر أنه إمبراطور العالم.
لم يكن توقيت الزيارة ولا ما سبقها من تصريحات مجرد صدفة؛ ولا يجوز تسخيفها، بناء على مشاهد ومفارقات زيارة ترامب للسعودية خلال فترة ولايته السابقة، ببضعة جمل ساخرة تصف دوافع مجيئه هذه المرة أيضًا، كي يضحك على العرب، “ويحلب خزائنهم” ويعود حليفًا لإسرائيل، يساندها رغم ما فعلته وتفعله ضد الفلسطينيين. الحقيقة هي أن إدارة ترامب بحاجة للمال وللاستثمارات الخليجية، وهذا الهدف ستوفره لها الزيارة كما قرأنا. ولكن قد لا تبرم هذه الصفقات من دون أن تؤخذ المستجدات التي طرأت على منطقة الشرق الأوسط في الحسبان، لا سيما ما جرى ويجري داخل لبنان، بعد هزيمة حزب الله، وما جرى ويجري في سوريا، بعد سقوط نظام بشار الأسد، وتأثير ذلك على إيران وغيرها من دول المنطقة.
يأتي ترامب إلى الرياض ويعرف أنها ترغب وتستطيع، أن تلعب دورًا قياديًا حقيقيًا ومؤثرًا،في “لم شمل” الدول العربية الإسلامية السنية، وفي نفس الوقت تعلن عن دعمها للجهود الرامية إلى التوصل لمعادلة سلمية مع النظام الإيراني، الذي يبدي بدوره رغبة وميلا لإنجاح هذه الامكانية. يحضر وهو يعرف أن أنظمة الحكم العربية، خاصة في المملكة العربية السعودية، بحاجة إلى توفير الاستقرار السياسي في المنطقة، ويعرف أن هذا الاستقرار لن يتوفر إلا بتوفر عدة معطيات وشروط، أهمها ضرورة إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، فبدونه قد تستمر إبادة شعب فلسطين وتبقى حرائق الشرق مشتعلة.
أفترض أن هنالك تفاصيلَ كثيرة لهذه الزيارة لم يجرِ الحديث عنها علنًا، وستبقى طي الارشيفات المكتومة؛ وأقرأ ما يُكتب داخل إسرائيل والخوف من إمكانية تخلي النظام الأمريكي عن بديهية كون إسرائيل، أو على الأقل حكومتها الحالية، حليفة استراتيجية وحيدة في الشرق الأوسط؛ وأقرأ أيضا ما يكتب وينشر في الإعلام العربي، وجلّه إعلام مجنّد ويتبع أهواء وسياط أسياده، وأعرف أن جميع الاحتمالات السيئة تجاه مصير القضية الفلسطينية ما زالت واردة؛ ففلسطين قد خبرت من مآسيها منذ أكثر من مائة عام، وحشية الغرب وكذب العرب وغدر الأعاريب.
كل الاحتمالات واردة لكنني، مع كل التوجس، أشعر بأننا مقبلين على إيقاف المجزرة ضد الفلسطينيين،خاصة بعد أن بدأت محافل واسعة في العالم تقتنع،بأن الفلسطينيين هم ضحية مجازر الحاضر، وأن إسرائيل، بسبب جرائمها الوحشية ضدهم، تستحق خسارة مكانتها كضحية التاريخ المعاصر الوحيدة،وتستحق أيضا رفع الحصانة التي حمتها طيلة العقود الماضية، ومنعت محاكمة المسؤولين فيها عن الجرائم التي اقترفوها بحق الفلسطينيين. قد نشهد، إذا صدق هذا التصور، بداية طريق جديد سيبدأ بتنفيذ حل وفق إطار ترامب – بن سلمان، والذي يقضي بعودة جميع الرهائن في مرحلة واحدة، وإنهاء الحرب، وانسحاب إسرائيلي من غزة، وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين. ويبقى الخوف مما سيتلو ذلك على طريق توسيع اتفاقيات أبراهام،لتشمل دولا جديدة وتحديدًا سوريا تحت نظام الجولاني؛ والمخفي أعظم.
لا يمكن الكتابة عن القضية الفلسطينية من دون استحضار المحطات التي مرّت عليها عبر التاريخ المعاصر، وكيف تجاذبتها الأنظمة العربية وحاولت احتضانها في بعض المراحل، “بحب خانق” كاحتضان الدببة الجائعة، لكن هذه العجالة لا تكفي. ونستطيع أن نذكّر بعودة هذه المنافسة بعد أن تضعضعت مكانة “منظمة التحرير الفلسطينية”، وتم ترسيخ دور “حركة المقاومة الإسلامية- حماس”،كجهة شرعية تتصرف كقيّم على شؤون غزة ومصيرها، ومصير أهلها بعد انتهاء الحرب عليها. فحماس تفاوض فرنجة الأمريكان “وكفارها” مباشرة، وتوافق على منحهم جنديًا محتجزًا لديها، يحمل الجنسية الأمريكية، كبادرة لحسن النية.
لقد أعادتنا المحنة الفلسطينية الداخلية إلى ذاك الزمن القبيح، حين كانت “روح القضية الفلسطينية” رهينة مهينة، تتجاذبها الأنظمة العربية والإسلامية،وتقدمها أضاحي لإسرائيل ولأمريكا.
يتطلع الفلسطينيون لما يجري في الرياض، وفي داخل دول الخليج عمومًا بتشكك يصاحبه أمل. فقد توجهت القيادة الفلسطينية من رام الله لحكام السعودية، وعلى رأسهم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، واستجارت بنفوذه، وطالبوه بأن يقف مع فلسطين ويدعم حقها. ووعدتهم السعودية بألا تطبع مع إسرائيل قبل أن ينال الفلسطينيون حقوقهم بالدولة وبالاستقلال، وهذا ما أعلنه الأمير محمد يوم الأربعاء حين صرح مؤكدًا على “أن المستقبل الذي نتطلع إليه من خلال تحقيق أهداف التنمية المستدامة، يتطلب وجود بيئة مستقرة وآمنة. ونحن مدركون حجم التحديات التي تواجهها منطقتنا، ونسعى معكم فخامة الرئيس، وبالتعاون مع أشقائنا في دول مجلس التعاون الخليجي، لوقف التصعيد في المنطقة، وإنهاء الحرب في غزة، وإيجاد حل دائم وشامل للقضية الفلسطينية، وفقا لمبادرة السلام العربية والقرارات الدولية ذات الصلة، بما يحقق الأمن والسلام لشعوب المنطقة“.
ورغم وضوح الكلام لصالح الفلسطينيين، لا يمكن التأكد من نتائج الزيارة وتأثيرها المحتمل، مع أن ترامب نفسه أكد على أن “لا أعداء دائمين في السياسة فمصالح أمريكا أولا؛ وهذه ستؤمنها الأموال والاستثمارات الخليجية، وترتيب بضعة أوراق هامة، مثل دفع السعودية إلى مقدمة هرم الحلفاء، قد يكون على حساب قطر وأخواتها، ووضع قواعد تعامل جديدة مع نتنياهو وحكومته، واحتواء سوريا عن طريق تدجين نظام الشرع “الإسلامي الثائر”؛ الذي رأيناه في مشهد قد خلق بلبلة وإحراجًا داخل الحركات الإسلامية، التي هللت لقدوم الشرع /الجولاني على أجنحة الإسلام، قاهرا “الفرنجة” والصليبيين. لقد نجحت الزيارة بزج الكثيرين، ليس الحركات الإسلامية وحسب، في مشاهد محرجة وملتبسة، قد تتضح تداعياتها ونتائجها قريبا.
فلننتظر إذن فإن الغد لناظره قريب