بقلم: الشيخ رشاد أبو الهيجاء
“قيمة كل امرئ ما يُحسن”
“قيمة كل امرئ ما يُحسن” – مقولة جليلة تُنسب إلى الإمام علي كرّم الله وجهه، وتستند إلى الحديث النبوي الشريف:
“إن الله جل وعز يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه.”
في هذا القول تتجلى عظمة العمل المتقن، لا كمجرد أداء، بل كمرآة صادقة لما في النفس من صدق، وإيمان، وحرص على مرضاة الله. فإتقان العمل هو الفيصل بين الجد والهزل، وهو المعيار الحقيقي لقيمة الإنسان عند ربه، لا عند الناس.
ومن عظمة الإخلاص أن صاحبه لا ينخدع برضى الناس ولا يهتز لسخطهم، إذ إن هدفه أسمى من نظرات العابرين. عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.”
فمدح الناس أو ذمهم لا يرفع من قدر العبد ولا ينقص منه، لأن الله هو العليم بما تخفي الصدور. وقد جاء في الأثر أن أعرابيًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن مدحي زين وذمي شين”، فقال له:
“ذاك الله عز وجل.”
فالزهد في مدح من لا يزيدك مدحه، وفي ذم من لا ينقصك ذمه، لا يكون إلا لصاحب يقين وصبر. فمتى افتقد الإنسان هاتين القيمتين، كان كمن يركب البحر بلا سفينة. قال تعالى:
“فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون.”
المعيار الحقيقي
إذا كانت قيمة المرء بما يُحسن من عمل خالص لوجه الله، فعليه أن يعرف قدره الحقيقي من خلال علاقته بالله، لا من خلال أعين الناس. فربما منعته عن عطاء لا يستحقه، فاتهمك بالبخل، أو رفضت شفاعة لا تُجدي، فوصمك بقلة العقل، وربما رآك في محرابك فظنك تقيًا، وآخر رآك كذلك فاتهمك بالرياء.
هكذا أحكام الناس، تختلف باختلاف المصالح والزاويا، لكن الله يعلم السر وأخفى. لذلك لا تطلب إلا مرضاة الله، واثبت على عملك الصالح، فهو النفع الحقيقي لك ولمجتمعك، وهو ما يرفعك عند خالقك، لا عند الناس. قال تعالى:
“أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.”
ومن عظيم رحمة الله بعباده أنه لا يحاسبهم على الظواهر، بل على ما تكنّه القلوب:
“وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين.”
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“إنما الأعمال بالنيات.”
الناس يرون الظاهر… والله يعلم الباطن
يعلم الناس ظاهر الحياة، لكنهم يجهلون حقيقة القلوب. والله وحده يعلم ما نخفيه وما نعلنه:
“يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.”
“وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون.”
فقيمة الإنسان الحقيقية في صدقه مع ربه، وإخلاصه في عمله، سواء كان دنيويًا أو دينيًا. فقد جاء في الحديث القدسي:
“إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.”
فلا تفرح بمديح الناس إن لم تكن أهلاً له، ولا تحزن من ذمهم إن كنت بريئًا منه. وقد قال الإمام علي في وصف المتقين:
“إذا زُكي أحدهم خاف مما يُقال له، وقال: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بي مني، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني خيراً مما يظنون.”
وقد ذمّ الله من يفرح بالثناء الكاذب فقال:
“لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب، ولهم عذاب أليم.”
المعرفة الحقيقية للنفس
من مدحك بما ليس فيك، فلا تأمن أن يذمك بما ليس فيك. لذا لا تخدعك كلمات الناس، واطلب مددك من الله، فهو القائل:
“ولئن شكرتم لأزيدنكم.”
وشكر الله يبدأ بمعرفة قدر النفس أمام خالقها، وتزكيتها من الداخل، لا بالتباهي أمام الآخرين. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود:
“يا ابن مسعود، إذا مدحك الناس، فقالوا إنك تصوم النهار وتقوم الليل، وأنت على غير ذلك، فلا تفرح، فإن الله يقول: (ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا…).”
في التواضع رفعة
قيل إن المهلب بن أبي صفرة مرّ على مالك بن دينار وهو يتبختر، فقال له مالك:
“أما علمت أن هذه المشية تُكره إلا بين الصفين؟”
فقال المهلب: “أما تعرفني؟”
قال مالك: “أعرفك أحسن المعرفة. أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بينهما تحمل العذرة.”
فقال المهلب: “عرفتني حق المعرفة.”
خاتمة
ابحث عن أرقى الأعمال، وأشرفها، وأنقاها، وأكثرها مرضاة لله، واجتهد فيها. ولا تُلهك القيل والقال، ولا كثرة السؤال، ولا إضاعة المال. واعلم أن قيمة كل امرئ ما يُحسن.




