“إن مع العسر يسرا”
بقلم الشيخ رشاد أبو الهيجاء
من الناس من يُصاب باليأس والإحباط حين تحيط به مصائب الدنيا، ومنهم من يسيء الظن بربه، جاهلًا بحكمة القدر، وعاجزًا عن إدراك الغيب. وقد وجه الله تعالى نبيه الكريم ليبين للناس هذه الحقيقة فقال:
*{قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
فالغيب بيد الله وحده، والمؤمن يقطع وساوس الشيطان بيقينه بأن كل ما يجري في هذا الكون إنما هو بعلم الله وتقديره. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك”.
بهذه الكلمات يُفتح باب الأمل في وجه المحن، ويطمئن قلب المؤمن بأن الهمّ والضيق لا يدومان، وأن فرج الله قريب.
وقد نزلت سورة الشرح على رسول الله وهو مضطهد في مكة، مطارد من قومه، ليواسيه الله تعالى بقوله:
*{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.
كلمات تُثلج قلب كل مؤمن، تُذكّره أن العسر لا يمكن أن يغلب اليسر. وهذا هو الفهم الذي كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال عبد الله بن مسعود:
“لو دخل العسر جحرًا، لدخل عليه اليسر حتى يُخرجه، لأن الله يقول: {إن مع العسر يسرا}.”
ويُروى في السير أن أبا عبيدة عامر بن الجراح، لما خرج لفتح بلاد الشام واشتد عليه الأمر، كتب إلى عمر بن الخطاب يبلغه الحال، فرد عليه عمر قائلًا:
“أما بعد: فإنه ما نزل بعبد مؤمن من شدة، إلا جعل الله له بعدها فرجًا، وإنه لن يغلب عسرٌ يسرين.”
الإنسان بطبعه يتوق إلى الراحة والطمأنينة، لكنه بحاجة إلى أن يُدرك طبيعة الحياة، وما فيها من ابتلاء وتمحيص. وقد عبّر الشاعر عن ذلك بقوله:
جُبلت على كدر وأنت تريدها
صفوًا من الأقدار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار
ومن نماذج الصبر واليقين ما جرى للصحابي خباب بن الأرث، وكان عبدًا فلما أسلم عُذب على يد سيدته، حتى حُفرت النار في ظهره. فلما ضاق به الحال، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقال: “يا رسول الله، ألا تدعو لنا؟” فجلس النبي، وقد احمر وجهه، وقال:
“لقد كان من قبلكم يُمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيُشق نصفين، ما يصرفه ذلك عن دينه. وليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون.”
في سورة الأحزاب، يذكر الله تعالى منّته على نبيه والمؤمنين حين حاصرهم الأعداء من كل الجهات، فقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا…}
فحين ضاقت السبل، وأحاط الخطر بالمسلمين، جاء الفرج من عند الله.
ومن أبرز ما فعله النبي وأصحابه في تلك اللحظات، أنهم حفروا الخندق حول المدينة استعدادًا للمواجهة. وقد روى الصحابي البراء بن عازب:
“أمرنا رسول الله بحفر الخندق، فعرضت لنا صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فشكوناها إليه، فنزل وأخذ المعول وقال: بسم الله. وضرب، فكسر ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام… ثم ضرب أخرى، وقال: الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس… ثم ضرب الثالثة، وقال: الله أكبر، أُعطيت مفاتيح اليمن…”
وهكذا، كان النبي يرى النور في قلب الظلمة، ويبشر أصحابه بالنصر في ذروة الشدة.
لا ينبغي لمؤمن أن ييأس من رحمة الله، فمع كل كدر من أكدار الدنيا، هناك رجاء في الفرج والعافية. نبي الله زكريا عليه السلام، بعد طول الانتظار، نادى ربه:
{رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين}،
فجاءه الجواب:
*{فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه}.
وقد قال الحسن البصري: “عجبًا لمكروب يغفل عن خمس آيات عرف الله لمن قالهن الفرج”، وهي:
- {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}
- {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
- {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
- {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
- {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}
فمن تمسّك بهذه المعاني، وتيقّن بأن مع العسر يسرا، عاش بإيمان راسخ لا تهزّه المحن، وظل قلبه معلقًا برجاء الله.




