في ظل الواقع المؤلم الذي تعيشه الأمة، تزايد الحديث حول النفاق والمنافقين. ويظن بعض الناس أن النفاق ظاهرة طارئة ومستجدة، بينما الحقيقة أن النفاق كان حاضراً في المجتمعات البشرية منذ القدم. فقد انقسمت المجتمعات عبر التاريخ إلى ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر، ومنافق. ومن هنا، افتتحت سورة البقرة ببيان حال كل صنف منهم، فكان وصف المنافقين شديد البيان، قال تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}
[البقرة: 8–10]
وفي سورة “المنافقون”، نقرأ وصفاً دقيقاً لحال المنافقين الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنهم عاشوا بين ظهرانيه، وصلوا في مسجده، وأظهروا الإسلام، بينما قلوبهم ملأى بالحقد والكراهية. قال تعالى:
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
[المنافقون: 1–2]
فالنفاق كان ولا يزال خطراً داهماً، وهو على نوعين:
النفاق الأكبر: وهو ما يُخرج من الملة، بأن يُظهر الإنسان الإيمان ويُبطن الكفر، وهو الذي كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد نال النبي الكريم أذى عظيماً من هؤلاء، الذين أظهروا الإيمان وتعاونوا في السر مع أعداء الدعوة.
النفاق الأصغر: وهو لا يُخرج من الملة، لكنه ينقص الإيمان، ويُعد من صفات أهل الفجور، كما ورد في الحديث الشريف:
“أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدَعَها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر”
[رواه البخاري ومسلم]
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
“آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”
[رواه البخاري ومسلم]
ومع خطورة النفاق، إلا أن التسرع في اتهام الناس به أمر لا يجوز شرعًا. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يُسمِّ المنافقين، بل اكتفى بذكر صفاتهم ليُترك لهم باب التوبة مفتوحًا. قال تعالى:
{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}
[محمد: 30]
ومن أراد معرفة صفات المنافقين، فعليه أن يرجع إلى بدايات سورة البقرة وسورة المنافقون.
إن للنفاق عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة، كما في قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}
[النساء: 140]
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}
[التوبة: 68]
فهم يقفون دائمًا بالمرصاد لأهل الإيمان، يصدّون عن طريق الحق، أفرادًا وجماعات. قال تعالى:
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
[التوبة: 67]
وقد ابتلينا في زماننا هذا بأُناس جعلوا من أنفسهم أوصياء على الدين، يصنّفون الناس بأهوائهم: هذا مؤمن، وذاك كافر، وآخر منافق. وكان الأجدر بكل مسلم أن يخشى النفاق على نفسه قبل أن يتهم غيره، كما كان دأب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ يقول ابن أبي مليكة:
“أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه”.
بل إن الفاروق عمر بن الخطاب، رغم علمه وتقواه، كان يسأل حذيفة بن اليمان – كاتم سر رسول الله – قائلاً:
“أنشدك الله، هل سماني لك رسول الله من المنافقين؟”
فيجيبه: “لا، ولا أزكي بعدك أحدًا”.
قد يسأل سائل: لماذا كان عمر يخشى ذلك؟
والجواب عند الإمام أحمد، حين قال:
“من نجا من النفاق، فقد نجا من شرور الدنيا وعذاب الآخرة، ومن وقع في شرك النفاق، خسر الدنيا والآخرة”.
ورغم كل ما تقدم، فإن باب التوبة مفتوح على مصراعيه، حتى أمام المنافقين، كما قال تعالى:
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}
[النساء: 145–146]
نسأل الله أن يطهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، إنه سميع مجيب.