مطلق عبد الخالق ‘شاعر الروح والكآبة’ بقلم الباحث والمؤرخ د. جوني منصور- حيفا

مراسل حيفا نت | 08/03/2009

سأخرج عن عادتي في الكتابة التاريخية لأغوص في هذا المقال في عالم شاعر اتخذ حيفا مسكنا له وميدانا لنشاطاته الادبية والحياتية والاجتماعية والسياسية. واستوقفتني عدة أمور تتعلق بشاعرنا المشار إليه، ومن أبرزها أنه واكب مسيرة شعبه النضالية من أجل إحقاق حقوقه في وطنه، والسير نحو مزيد من الرقي والتقدم.

وإن كنتُ في هذه المقالة القصيرة سألج بعضا من جوانب حياة وشعر مطلق عبد الخالق، وذلك لأنني وجدت فيها صوتا متميزا نقل صورة واقعية لما كان يمر به الشعب الفلسطيني من مسيرة نضالية وكفاحية وتغييرات اجتماعية وثقافية بفعل ازدياد حدة تأثير المؤثرات الاوروبية الغربية واليهودية الوافدة قسريا على مجتمعنا الفلسطيني.

وما دفعني إلى كتابة هذا المقال عن عبد الخالق ليس فقط شعره ذي الأحاسيس المرهفة فحسب، إنما لكونه شاعرا لم يجلس على الحياد، إنما جنّد قدراته الفكرية وطاقاته البشرية لخدمة قضية شعبه. ولهذا يستحق أن نُعرّف به، وأن ننقل إلى القراء الكرام شيئا من شعره، ومساهماته الاجتماعية والفكرية وآثارها.

د.جوني منصور

 من الناصرة إلى القدس فحيفا 

ولد مطلق عبد الخالق في الناصرة في عام 1909(كما يذكر مؤرخ الأدب الفلسطيني الدكتور عبد الرحمن ياغي في كتابه "حياة الأدب الفلسطيني الحديث")، أو في عام 1910 (كما يذكر مؤرخ سير الأعلام الفلسطينيين يعقوب العودات في كتابه "من أعلام الفكر والأدب في فلسطين).

تلقى تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه الناصرة، وعُرف عنه حبه للدراسة وشغفه بالمطالعة، وتفوقه على أترابه من طلاب صفه.

ثم أُرسل ليتابع دراسته فوق الابتدائية في كلية روضة المعارف في القدس، حين ندرت المدارس الثانوية في فلسطين.

وعن هذه المرحلة كتب شقيقه صبحي عبد الخالق ما يلي:"دأب المرحوم(مطلق عبد الخالق) بعد انتهائه من الدراسة على مطالعة الكتب الأدبية من عربية وافرنجية، واستطيع أن اذكر أنه لم يترك كتابا إلا وقرأه. وكان إذا باحث بعض المثقفين وممن نالوا درجات دبلوم في العلوم، في موضوع من المواضيع العلمية أو الفلسفية، يفحمهم وينتصر عليهم في حين أنهم تلقنوا العلوم في مدارس وكليات أرقى وأعلى بكثير من المدارس التي تخرج منها، الأمر الذي يدل دلالة واضحة على نبوغ هذا الشاعر الشاب وذكائه الفذ النادر".

عمله في ميدان الصحافة

في واقع الأمر أن الصحافة الفلسطينية في الثلاثينات من القرن الماضي قد لعبت دورا مركزيا في تثقيف شرائح واسعة من المجتمع، وفي الوقت ذاته كشفت وقائع مركزية ومريرة في تاريخ الشعب الفلسطيني، ووجهت مسيرته. وبالرغم من هذا الدور الأساسي إلا أنها لم تترك أثرا عميقا لدى صُنّاع القرار في فلسطين في ذلك الوقت، أي الإدارة البريطانية التي كانت ميالة بشكل فاضح إلى الجانب الصهيوني، ولا على الزعامة العربية المحلية أو الاقليمية لكونهم لم يدركوا خطورة التحرك الصهيوني الساعي تدريجيا إلى السيطرة على فلسطين. ولكن مطلق صمم على خوض تجربة في العمل الصحافي، فأسس جريدة مستقلة له دعاها "كشافة الصحراء"، كانت تصدر في حيفا، ثم انتقل إلى جريدة اليرموك لصاحبها كمال عباس ليشغل منصب محرر فيها، ثم مديرا لإحدى مدارس حيفا لفترة وجيزة لم تبعده كثيرا عن العمل في الصحافة، فكلف بالإشراف على تحرير جريدة النفير لصاحبها ايليا زكا. ولما لم تسعفه رواتب الصحف انتقل ليعمل موظفا في البنك العربي. ومجددا وجد نفسه يسير نحو الصحافة فعُيّن محررا في جريدة الصراط المستقيم اليافية لمحررها الشيخ عبدالله القلقيلي ثم محررا فمراسلا لجريدة الدفاع اليافية لصاحبها ابراهيم الشنطي. وأخيرا قبل وفاته وكيلا صحافيا للأخبار للصحف العربية في حيفا، وهذا دلالة على قدرته في تزويد الصحف الفلسطينية التي اعتمدته بمجموعة من الاخبار المحلية في حيفا والقضاء، إضافة على كتابة وجهات نظره في قضايا مصيرية.

الشاعر مطلق عبد الخالق

 

القضايا الفلسطينية تناديه وتشده إليها 

لعب الشعر في المشهد الحياتي الفلسطيني دورا مركزيا في نقل صورة عما كان يجري في الحياة اليومية وما كان ينتظر الشعب الفلسطيني مستقبلا، وكذلك نقل الشعر أحاسيس ومشاعر الفلسطينيين لوطنهم وانسانهم وارضهم وقلقهم ورؤاهم. وكان مطلق من هؤلاء الذين دمجوا بين المشهد الواقعي والأحاسيس تجاه ما يحبونه، وحب الوطن من أسمى أنواع الحب. 

ولم تتوقف قصائده عند القضايا السياسية، وهي مسألة محورية وجوهرية وفي غاية الأهمية، إنما تعدى ذلك ليسبر غور القضايا الاجتماعية.

سادَ الشعور في الثلاثينات أن فلسطين كلها شهيدة قبل أن تحل النكبة، تلك المأساة الكبرى، فكتب قصيدة بعنوان "فلسطين الشهيدة": 

فلسطين الشهيدة لا تراعـي                        ولا تأسي ولا تذري الدموعا

فنحن وهم سنبقى في صراع                      إلى أن ننقذ الحق الصريعـا

ونعقد فوق هامك تاج غـار                        ونسكنك الحنايا والضلوعـا    

ونسخـر من عدو مستبـدٍ                           وعين الله ترقبـنا جميعـا        

عدوك ان اضعت لديه حقًا                        فعند الله حقك لن يضيعـا

ويوجه اللوم الشديد والقاسي الى الزعامات والقيادات العربية في اعقاب تدخلهم لوقف الاضراب الفلسطيني الشهير الذي شكل جزءا من الثورة الفلسطينية الكبرى في منتصف الثلاثينات، يكتب: 

قدمتُم ـ قبل أيام ـ مذكرة                            إلى الحكومة، يا قـوم "الزعامات"

يا ليت أنا عرفنا ما يطرزها                       من المعاني، ومن سامي العبارات

رويدكم، لا تلوموا، أننا بشر                       من لتراب، وأنتم في السمـاوات

مذكرات، كثار العد قد سبقت                      هذي فراحت شظايا كالقُصَاصات

 

وعبر عن حبه لوطنه بقصيدة جميلة، نورد بعضا من ابياتها: 

قيل لي هات في الوطن                             شاعر الحب والحزن

اننـا اليـوم نشتـهي                          شاعرا يذكر المِحـن

إن ليـلى وعـزة                             والرشا، متن من زمن!

فدع الحب والهوى                                   ودع الشجو والشجن!

أنا يا موطني شبح                                   ما لغير الحمى أحن؟

إنه الحب، موطني                                   إنه الحب مستكن! 

وحين زُجّ شقيقه صبحي وعدد من المناضلين الفلسطينيين في سجن المزرعة بالقرب من عكا كتب إليه قصيدة بعنوان "أخي السجين..!":

 

أخي! فداك الروح يا حبيبي                        ويافعا كالفنـن الرطـيب

ذكراك في الشروق والغروب           لا تمحى من قلبي العجيب

أخي لسجين! هذي الحياة                           أخوك في دنيـاه كالخيال

يذوب في السقام والهزال                          كما تذوب الشمس في المغيب 

قضايا المجتمع تشغله 

وتأثر مطلق بالحركة العمالية العالمية، وما اجتاحت العالم من ثورات ومظاهرات مطالبة بمزيد من حقوق للعمال الذين أغرقتهم الرأسمالية بوعودها البراقة، لسلب قوتهم وقدراتهم مقابل بخس من الرواتب، فخاطب العامل في كل مكان بعدة قصائد، من أبرزها "نشيد العمال"، وهذه بعض من أبياتها: 

بؤساء الدهر يا قوم العبيد                          يا ضحايا الجوع والموت الزؤام

استعدوا، حاربوا! الخصم العنيد                  واشعلوا في القلب نار الانتقام!

واهدموا، في عصرنا، كل قديم                   وارفعوا عن ظهركم نير العذاب

فتقيموا في غد"كونا" عظيم                       كان بالأمس صريع الاضطراب 

وجرّاء تكاثف موجات الهجرة اليهودية إلى حيفا وقدوم جاليات اوروبية كثيرة للعمل والعيش في حيفا، ازدادت مظاهر اللهو من خمارات ومراقص وملاهي ليلية، وبكونها مدينة مركبة ومتعددة الهويات والانتماءات وجد عشرات من الشباب العربي كاليهودي والاجنبي طريقه إلى هذه الملاهي والمراقص، وهنا جاء دور الشاعر مطلق لينبه إلى خطورة هذه المهاوي بقصيدة "خواطر.. في مرقص!": 

مرقص ضاحك يحفّ به البشـ          ر، ويغدى في صحنه ويُراح

مستباح الحمى، وفيه اناس                        كل ما فيه عندهم مستباح

مرقص عابث يعج عجيجًا!                       كل ما فيه جلبة وصياح!

فيه "رفكا" وفيه "ليزا" وليلى                     وخزامى، ونرجس وأقاح

إن رقصن فرقصهن وثوب                       أو تغنين، فالغناء نباح

كافحوا هذه الميول وتوبوا                         طاب في هذه الليالي الكفاح  

 

حيرة شاعر: حياة ام موت! 

تأثر مطلق بالشعر الصوفي، وكذلك تأثر بنشاطات وكتابات الدكتور داهش، وما تركه هذا الشخص من بصمات على شخصية الشاعر، يمكن الاعتقاد أنها دفعته إلى التعمق كثيرا في مسألة زوال الانسان وضعف حياته على هذه الارض، وأن الموت خطوة مهمة نحو الابدية. والملاحظ في عدد من قصائده انه مصاب بالكآبة والحزن الشديد والألم العميق. وجاءت مجموعة من قصائده بهذا الاتجاه حيث يناغي الروح ويعتبرها أهم من الجسد وارقى منه بدرجات.

وصور أفكاره بمجموعة من القصائد في ديوان مشترك مع الدكتور داهش حمل اسم "ضجعة الموت" أصدره قبل رحيله بعام، وفيه مجموعة من التأملات والخواطر النفسية للشاعر. فصور ضجعته الابدية بقوله: 

أغمض الشاعر عينيه ونام                        فاستراح

نومه نوم سكون وسلام                             وارتياح        

إذ نسى في نومه كل الأنام                         والكفاح

سرق النور دُجى الليل فقام                        في الصباح

                       فإذا النوم ظلام 

نهاية الشاعر مطلق عبد الخالق 

كان الشاعر في طريقه إلى منزل صديقه المحامي وديع البستاني عند الشاطئ الازرق في حيفا، وذلك بهدف التنسيق المشترك في قضية السعي لإطلاق سراح المعتقلين من المناضلين الفلسطينيين في سجن المزرعة ومن بينهم شقيقه صبحي والزعيم المناضل صبحي الخضرا من صفد وغيرهما، ولما اجتازت سيارة الأُجرة التي كانت تقله خطوط سكة الحديد بالقرب من بيت البستاني تعطل محركها فاصطدم بها القطار مما أدى إلى إصابة مطلق إصابة بالغة فارق الحياة على أثرها في مستشفى الحكومة، بالرغم من محاولات الدكتور نايف حمزة مدير المستشفى إنقاذ حياته. وكان ذلك في 9 تشرين الثاني 1937.

وعثر في أحد أدراج مكتبه على قصاصة ورق كتبها قبل رحيله بأيام وتحديدا بتاريخ 23 ايلول 1937، كتب فيها:"مساء الخميس 23 ايلول 1937: أنا الآن في غرفة. والساعة الخامسة والدقيقة 15. أُفكر في مبهمات الحياة، وأُقايس بين ما غير وبين ما أنا عليه في ساعتي هذه وبين ما سيأتي. أيها القدر القاسي، تُرى ماذا تُخبئ لي في القريب بين طيّاتك؟!"

ويبدو أنه كان مصابا بكآبة شديدة ممزوجة بحزن بالرغم من نضاله وكفاحه الوطني، ففي قصيدة "طلاسم" يقول: 

نُحـبُ ونكره في لحظــة                            ونشقى ونُسعد في ثانيـه

ونرتاب في الأمر حين اليقين            ونوقن في الريبة الطاميه

ونأمـل واليأس مستحكــم                           ونيأس حين المُنى راضيه 

  اربعينيته، منبر الخطباء 

كانت فلسطين تغلي كالمرجل بعد تدخل الزعماء العرب لإيقاف الإضراب الكبير بضغط من الصهيونيين والانجليز، ووجد الخطباء من شعراء وصحافيين ومفكرين فرصة ذكرى الأربعين لرحيل مطلق في الناصرة منبرا لتعداد مناقبه ولتوجيه نقد شديد إلى القيادات الفلسطينية والعربية. ونشرت مجموعة كبيرة من كلمات التأبين والخطابات في الجزء الثاني من ديوان "الرحيل" للشاعر نفسه والذي لم يره في حياته، حيث نشره شقيقه صبحي بعد عام على رحيله. 

خاتمة

وإن كان رحيله سرٌّ خفي لن نعرفه ونحن على هذه البسيطة، إلا أن هذا الشاعر الذي عاش 27 ربيعا ساهم مساهمة جليلة في الحياة الأدبية والاجتماعية والسياسية والصحافية، وبالرغم من صغر سنه وشح الإمكانيات إلا أنه نشر ديوانه الأول بمشاركة الدكتور داهش بعنوان "ضجعة الموت"، ونشر مقالات وقصائد كثيرة على صفحات الصحف التي عمل فيها، وما نشره شقيقه بعد رحيله.

كل هذا، وحديثنا عن الثلاثينات من القرن الماضي. يستحق هذا الشاعر الشاب التقدير والاحترام لما أنجزه. وكرمته منظمة التحرير الفلسطينية بمنحه وسام القدس للثقافة والفنون في عام 1990!!

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *