حق الشعوب بالانتحار ولكن.. بقلم جواد بولس

مراسل حيفا نت | 23/03/2025

 

تشهد إسرائيل، هذه الأيام، آخر تداعيات الحرب الجارية منذ سنوات طويلة، بين دعائم وبقايا منظومات الحكم السابق فيها، وبين كتائب “العهد القديم”، الذي يعمل بنيامين نتنياهو على تأسيسه وترسيخه، ومعه تحالف شرس من ممثلي القوى القومية الشوفينية، وقادة الحركات الدينية المسيانية الأصولية، وثلّة من الناطقين باسم “روح الشعب”، يهددون باسمه كل من يقف في طريقهم، ويؤخر إنجاز مهمتهم التاريخية في إقامة إسرائيل الكبرى.

تتمحور المعركة الحالية حول موقعي المستشار القضائي للحكومة، ورئيس جهاز المخابرات العامة -الشاباك؛ اذ أن معظم مراكز القوة والإدارة والحكم السابق قد أجهز عليها تماما، أو قد أخضعتها الحكومة الحالية أو سابقاتها، التي تولّى رئاساتها بنيامين نتنياهو على عدّة دورات، لإمرتها، وحوّلوها إلى أجهزة موالية لسياساتهم.

لم تبدأ هذه “الحرب” في السنتين الأخيرتين كما يعتقد البعض؛ فمآرب نتنياهو وسعيه في التحوّل الى زعيم إسرائيل الأوحد والقوي، بدأت منذ سنوات طويلة، وتحديدًا داخل حزب الليكود نفسه، حين نجح بالتخلّص من جميع منافسيه الطبيعيين التقليديين، أو من أطلق عليهم اسم “أمراء الحزب”، بالإشارة إلى كونهم أبناء أو أحفاد مؤسسي الحزب وقادته التاريخيين في تشكلاته السابقة، واستبدالهم بقيادات جديدة، استلّ بعضهم من قواعد شعبية عديمة الخبرة الحزبية، والوعي بأصول إدارة الحكم في “دولة ديمقراطية”، وبعضهم ترقّوا على سلالم أتاحها لهم نتنياهو نفسه خلال معاركه داخل مؤسسات حزبه، ونجح ببناء حزب يقف على رأسه، وتحته مجموعات تعرف أنها مدينة للزعيم، ولا تستطيع ولا تجرؤ على منافسة قيادته المطلقة أو الطعن بجدارته بها، مهما فعل أو لم يفعل.

لست في معرض التعرّض إلى تداعيات هذا الفصل في تاريخ الحالة السياسية الإسرائيلية، خاصة أننا ما زلنا نتابع مشاهده الأخيرة، التي ستحسم، هكذا أتوقع وفق جميع المعطيات، لصالح نتنياهو وحلفائه. ولكن لنقفز، في هذه العجالة، عمَا مضى وننظر إلى الحاضر، والسؤال حول واجبنا وقدرتنا في التأثير عليه كمواطنين وكأبناء لأقلية قومية ستتأذى بشكل لم نعهده من قبل.

أقول هذا وأعرف أنها ليست المرة الأولى التي أحاول فيها الإشارة إلى هذه المسألة وإلى خطورة ما سنواجه؛ فالمجتمع الإسرائيلي كان يهوي، منذ سنين عديدة، بتسارع مقلق وواضح نحو الهاوية؛ ورغم الخطورة، لم ينجح المجتمع العربي في إيجاد سبل مواجهتها، بل نأت أكثريته عن “متاعب السياسة” فعافوها، وذهب كل فرد يفتش في وعره عن “مسارب نجاته”، وعن خيمة تضمن له المنفعة. لقد اهترأت الكوابح الهويّاتية الجامعة والاجتماعية وسقطت القيم الواقية، في حين كانت قيادات حركاتنا وأحزابنا السياسية ومؤسساتنا تهرول على ذاك المنزلق الخطر، وتجر وراءها الناس نحو باب الهاوية.

حصل ما حصل ووصلنا إلى المشهد الأخير، وأخشى أن تقفل الستارة ونحن خارج اللعبة أو كزوار على هذا البيدر.

لقد عاد نبض العقل إلى بعض الشرائح اليهودية؛ فرأينا مؤخرًا الآلاف يخرجون في مظاهرات احتجاج ضد إغارة نتنياهو على موقعي المستشار القضائي للحكومة، ورئيس جهاز المخابرات العامّة؛ ويتهمونه بأنه عاد ليستغل حربه على غزة خدمة لأهدافه الخاصة ومنفعته السياسية.

يعتبر انطلاق حركة الاحتجاجات ضد نتنياهو خطوة ضرورية ومحاولة هامة، لوقف الانزلاق نحو الهاوية بالنسبة لنا أيضا، خاصة أنها تجري في غياب أي تحرك سياسي لافت داخل المجتمع العربي أو أي تعبير عن موقف مؤسساته، القيادية أو الحزبية أو النخبوية، إزاء حروب الحكومة على جميع الجبهات، والمعركة الحالية على موقع المستشار القضائي، وكأن مصير هذه المعركة لا يعني المواطنين العرب، ولن يؤثر على مصالحهم وحقوقهم، وعلاقاتهم بمؤسسات الدولة وقراراتها تجاههم. ومثلها غياب مواقفهم تجاه المعركة على موقع رئيس الشاباك وتبعات تحويله، كما تصرّ الحكومة، إلى مجرد موظف تابع لرئيس الحكومة، ويدين له بالولاء الشخصي، وليس بالولاء لسلطة القانون، كما هو الحال اليوم.

أتصور أن المواطنين العرب بأكثريتهم لا يبالون بهاتين المسألتين، لأنهم يغفلون عمليًا أهمية وتأثير هذين المنصبين على إمكانية تغيير ظروف حياتهم اليومية للأسوأ؛ ويتذكرون ما حفظوه، منذ قيام إسرائيل، عن ممارسات الشاباك وقمعه ضد مواطنيها العرب، كما يتذكرون المواقف السلبية التي اتخذها المستشارون القضائيون للحكومات السابقة بحق المواطنين العرب وقياداتهم. تعتبر هذه الحقائق عوامل هامة ودوافع شعبية سليمة ومفهومة، ولكن لا يمكنها، رغم أهميتها، أن تمنع الخبراء القانونيين وقادة المؤسسات القيادية والحقوقية والمدنية العاملة داخل المجتمع العربي من اتخاذ موقف أكثر مهنية وقياديا مدروسا، لا سيما إذا وضعناها في سياق الأحداث العام، وفهمنا أن المعركة على هذين المنصبين هي آخر المعارك، وبعدها سنواجه واقعًا جديدًا ستتحكم فيه شرائع التوراة، والمكلفين بتنفيذها، وكتائب “المطوّعين” الذين سيستعملون السياط بيدٍ، وبالأخرى مسدسًا أو بندقية.

كانت علاقة المواطنين الفلسطينيين بمؤسسات الدولة شاغلا حاضرًا في كتاباتنا على الدوام؛ وأذكر أنني تطرقت، قبل خمسة عشر عاما، لعلاقتنا بمكتب المستشار القضائي للحكومة، وتحديدا بعد قرار “ماني مزوز”، المستشار القضائي للحكومة في حينه، تقديم لائحة اتهام ضد محمد بركة، وكان حينها نائبًا في الكنيست. كانت مؤسسة المستشار القضائي للحكومة تواجه هجومًا من الأحزاب اليمينية ومحاولات لم تتوقف، كما نرى اليوم، لتفكيكها وإضعافها. وقتها كتبت: “إن قرار مزوز كان متوقعًا، لأنه يقدّم ضحية سهلة على مذبح السادة، ولكنه قرار خطير يستوجب منّا ألا نستكفي بالشجب وبالتوصيف؛ فعلى مؤسساتنا القيادية، وتلك التي تعنى بالشؤون القانونية والمدنية لجماهيرنا، ومعشر المحامين والقانونيين بيننا، تدارس قضية علاقتنا بمؤسسة المستشار القضائي بشكل شامل ومعمّق، وفي طليعة ذلك، علاوة على تقييم دور هذه المؤسسة تجاهنا، السؤال هل في صالحنا أن تكون مؤسسة مستقلة وقوية، وأن يقف على رأسها شخص مستقلّ نسبيًا؟ وهل يمكن أن يكون لنا دور أو تأثير في هذا الشأن؟ وهل حاولنا في الماضي؟” وأضفت: “من الجائز أن يكون جوابك الفوري: لا فرق بين هذا وذاك، فكلهم بالشر سواسية؛ وإن كان هذا الجواب، فليكن بعد دراسة وبحث، إذ حتى اليوم اكتفينا، كلما وقعت القرعة على أحدنا، برد الفعل وإعلاء صوتنا شاجبين ومحتجّين. هذا أمر ضروري وهام ولكنه برأيي غير كاف”. ومرت السنون، أكتب وأنسى، ويستمر اليمين بزحفه؛ والعرب، هناك وهنا، “ينامون ملء جفونهم” وقلاعهم تسقط تباعًا حتى لم يعد عندهم، ولا عندنا لا “سيف ولا رمح ولا قرطاس ولا قلم”.

لا أحد يحاسب أحدًا عندنا؛ ذاكرة الشعوب/الجماهير خوّانة وأحيانًا مغتصبة؛ فمن يجرؤ على الكلام في “زمن الغزة”، ومن يحاسب من، ومن يراجع الحسابات ومن يقيّم الخيارات، ومن يكيل النصر أو الهزائم، وقد حفرت كلها مآثر على نصال سيوف، ودفنت في قبور من رمل وفوقها شواهد كتب عليها: “بيض صنائعنا، سود وقائعنا، خضر مرابعنا، حمر مواضينا”.

لا أعرف ما الذي ذكّرني بما كتبه الجنرال “يهوشفاط هركابي” في كتابه الهامّ بعنوان “قرارات مصيرية”، الصادر عام 1985. كان هركابي قائدًا للمخابرات العسكرية في منتصف خمسينيات القرن الماضي، ومحاضرًا بارزًا في قسم العلوم السياسية في الجامعة العبرية. وقد شعر في تلك السنوات أن التقارب الحاصل بين القوى اليمينية القومية والحركات الدينية السلفية، وعلاقة الدين بتشكيل مفاهيم الصهيونية ومكانة المستوطنات في الأراضي المحتلة، كلها مؤشّرات تدلّ على جنوح قومي يهودي خطير وتهديد لمصير الدولة فكتب: “إنني أقرّ بالحقّ الديمقراطي لليهود في إسرائيل أن ينتحروا قوميًا، فإذا حصل هذا سأكون معهم، ولكن عليّ، بقدر ما أستطيع، أن أحذرهم من ذلك، وها أنا فاعل بالوسيلة المتاحة لدي، بالكتابة”.

لم يسمع إخوة هركابي نصائحه، لكنهم لم يخوّنوه ولم ينبذوه ولم يقتلوه؛ فلقد كتب وانتقد وراجع وقيّم ونصح، ومثله يفعل اليوم يهود كثيرون، ويعرفون أنها قد تكون هذه آخر هوامشهم، فبعدها قد يكون الانتحار، أو قد يحصل كما في دين العروش والممالك: ستنصب للمعارضين المشانق، وللمختلفين ستنعقد الدواوين وتقضي الشرائع.

ما الذي ذكّرني اليوم بنصائح هركابي لقومه؟ ربما هي فكرة الانتحار القومي، أو ربما لأنني أكتب وأُنسى وأعرف “أنني حيٌّ وحرٌّ حين أنسى”؛ والسلام لروح درويشنا الذي لن ينسى!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *