نافذة في الصبر
بقلم الشيخ رشاد أبو الهيجاء
الصبر مفتاح الفرج، وهو عدة الصالحين، وبالصبر بشر الله عباده المؤمنين، فقال تعالى: “وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ”. كما أمرنا الله بالتواصي به، فقال في سورة العصر: “وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ”.
أنواع الصبر ودرجاته
الصبر أنواع ودرجات، كما أشار الشيخ عبد القادر الجيلاني في “الفتوح”:
1. الصبر على الطاعات، وهو الالتزام بأوامر الله رغم المشقة.
2. الصبر عن المعاصي، وهو مقاومة الإغراءات والابتعاد عن المحرمات.
3. الصبر على المحن والابتلاءات، وهو تحمل المصائب والمحن بثبات ويقين.
وهناك صبر اختياري، يكون للعبد ثواب أعظم عليه، كمن يقوم بين يدي الله حبًا وشوقًا، وصبر إجباري يفرض على الإنسان بحكم القدر.
نموذج في الصبر: نبي الله يوسف
تجسدت كل صور الصبر في قصة نبي الله يوسف عليه السلام. فقد صبر على مراودة امرأة العزيز بحزم واختيار، عندما قالت له: “هَيْتَ لَكَ”، فرفض قائلاً: “مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ”. كان ذلك صبرًا اختياريًا، وهو أعظم ثوابًا عند الله. وعلى الجانب الآخر، تعرض يوسف لمكر إخوته، حيث ألقوه في الجب، فكان صبره إجباريًا، لكنه لم يزده إلا إيمانًا وثباتًا.
الصبر صفة الأنبياء وأولي العزم
الصبر هو نهج الأنبياء جميعًا، وقد أمر الله رسوله الكريم بالاقتداء بأولي العزم منهم، فقال: “فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ”. وهؤلاء هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، كما ذكرهم الله في قوله: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ”.
وقد ورد عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: جئنا إلى النبي ﷺ نشكو له ما نلاقي من أذى قريش، فوجدناه متوسدًا بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ فقال: “قد كان من قبلكم يُحفر له في الأرض، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيُشق نصفين، وما يصرفه ذلك عن دينه… ولكنكم تستعجلون”.
الصبر بين البلاء والنعمة
المحن والمؤامرات تحيط دائمًا بأهل الحق، ولكن الصبر هو سبيلهم للثبات. والمؤمن يتقلب بين نعمتين: الصبر والشكر، وهما جناحا الإيمان. فمن صبر على المحن فقد ظفر، ومن شكر على النعمة فقد زاده الله من فضله. يقول الله تعالى: “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ”، كما قال: “وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ”.
والله تعالى وعد الصابرين بمعيته، فقال: “وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ”، كما قال لنبيه: “وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا”.
الصبر والشكر معًا
قال أحد الفقهاء: “لم أر خيرًا إلا كان معه شر، إلا المعافاة والشكر. فرب شاكر في بلائه، ورب معافى غير شاكر”. لذا، كان من دعاء الصالحين: “اللهم اجعلنا من الصابرين والشاكرين”.
ورُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين لبس قميصًا جديدًا، قال: “الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي”. كان هذا شكرًا لله، وهو صفة المؤمن الذي يتقلب بين الصبر والشكر، فينال رضوان الله وجنته.
والله ولي التوفيق