الإسراء والمعراج والمسجد الأقصى: تأملات في رحلة السماء والأرض
بقلم: الشيخ رشاد أبو الهيحاء، إمام مسجد الجرينة – حيفا
عندما يهل علينا شهر رجب، تهل معه الذكريات العظيمة من تاريخ الأمة الإسلامية، مثل غزوة تبوك التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة من الهجرة، وهجرة المسلمين إلى الحبشة في السنة الخامسة من النبوة، وفتح دمشق على يد أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد في السنة الرابعة عشر من الهجرة، ومعركة الزلاقة بالأندلس في السنة 479 هـ، ودخول بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي في السنة 583 هـ. ومن أهم الصفحات التاريخية التي تستحق التأمل هي رحلة الإسراء والمعراج، التي رغم كونها حادثة غير قتالية، إلا أنها تُعتبر من أعظم المعجزات التي وضعت أساسًا لما سيحدث بعد ذلك إلى يوم القيامة.
الإسراء والمعراج: معجزة عظيمة
إن رحلة الإسراء والمعراج ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي معجزة ربانية أجراها الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث نقل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماء. وقد كانت هذه المعجزة في قمة كمال العبودية والاستسلام لله، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم في لحظة من ألمه بعد رحلة الطائف: “إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي”. لقد جسّدت هذه الحادثة العميقة كمال العبودية لله تعالى، ورفعة شأن النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الله ونفوس المؤمنين.
الآيات القرآنية: التأكيد على العبودية والأسرى
لقد أكد القرآن الكريم على هذه المعجزة في قوله تعالى: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىٰ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” (الإسراء: 1). هذه الآية تؤكد على العبودية الكاملة للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان رسول الله هو العبد الذي استضافه ربّه في هذا الحدث العظيم.
المعراج: رحلة سماوية تأكيدًا لأهمية المسجد الأقصى
وقد أشار القرآن الكريم إلى المعراج في سورة النجم، حيث قال تعالى: “وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ” (النجم: 1-4)، ليوضح للمؤمنين مدى عظَمَة هذه الرحلة التي بدأها النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الأقصى ثم ارتقى إلى السماوات السبع حتى وصل إلى سدرة المنتهى. هنا يتجلى المعنى الرمزي لهذا الربط بين الأرض والسماء، بين المسجد الأقصى في الأرض والعرش في السماء.
أهمية المسجد الأقصى في قلوب المؤمنين
في حديث الإسراء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لما فرغت مما كان في بيت المقدس، أُتيت بالمعراج، لم أرَ شيئًا قط أحسن منه…”. وبهذا الحديث يتضح لنا أن المسجد الأقصى ليس مجرد موقع جغرافي بل هو نقطة انطلاق لرحلة سماوية عظيمة، ما يبرز مكانته العظيمة في قلب كل مسلم. فالمسجد الأقصى هو المكان الذي باركه الله، وبارك ما حوله، وقد جعل له فضلًا عظيمًا في ديننا.
القدسية والتأكيد القرآني على مكانة المسجد الأقصى
لقد ذكر القرآن الكريم المسجد الأقصى وبيت المقدس في مواضع عدة، إما بالتصريح أو بالإشارة، مثل قوله تعالى: “وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَىٰ الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ” (الأنبياء: 71)، وكذلك في قوله: “وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَىٰ الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا” (الأنبياء: 81).
حُث النبي صلى الله عليه وسلم على زيارة المسجد الأقصى
لقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على زيارة المسجد الأقصى، حيث قال: “لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى”. وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وسلم: “صلاة الرجل في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة”، ليُشجع الأمة على الإكثار من زيارة هذا المكان المبارك.
القدس والشام: بشارات رسول الله
لقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشام وأهلها بالخير، فقال: “يا طُوبَى للشام، يا طُوبَى للشام، يا طُوبَى للشام”، فقال الصحابة: “يا رسول الله ولم ذلك؟”، فأجاب: “تلك ملائكة الله باسطة أجنحتها على الشام”. هذا التأكيد على أن الله سبحانه وتعالى قد وكل الملائكة بحراسة الشام وحفظها، وما المسجد الأقصى إلا جزء من هذا المشهد العظيم.
ختامًا: عهداً على الوصال والمرابطة
إن المسجد الأقصى، بما له من قدسية وفضل، يبقى في قلب كل مسلم، ولن نغادر العهد معه، بل نواصل المرابطة في سبيل الله، نتمسك بحقنا في هذا المكان المقدس، ونواصل السعي لتحريره من الاحتلال، ونعاهد الله على أن نكون دائمًا قريبين منه، حتى تحفنا بركة الرحمن.