ترامب في القدس بدون قناع

مراسل حيفا نت | 07/12/2017

ترامب في القدس بدون قناع
راهن الكثيرون من متابعي حلقات دونالد ترامب المسرحية على عدم جدّيته، وربما على قصوره في تنفيذ ما وعد به ناخبيه وحلفاءه، قبل وخلال مسيرته الفذّة نحو البيت الأبيض ووقوفه من هناك على صدر العالم. بعض المتخصصين والمحلّلين ومحترفي الشطحات النزقة تحدّوه وسخّفوا قدرات إدارته الفعلية، ومنهم من وعده وتوعدّه بانفجار حرب للنجوم لم يشهد مثلها التاريخ، فالتحرش في القدس، زينة قصائد العرب، وتقويض مكانتها “الرسمية” سيفتح على الأمريكان صهاريج جهنم، لأن العالم الإسلامي لن “يبلع” قساوة الخطوة المثيرة، ولا “الأشقياء” العرب سيتحملون وقع المصيبة والهزيمة والاستفزاز، هكذا استنبأ من قامر على أن ترامب لن يقدم على غمز خاصرة الشرق ومسّ عرض الأمة وعفافها.
وتأتي الصواعق كما تشتهي الحراب وتدق الفواصل على عتبات “الدمن”! فقبائل صحاري هذا العصر لحمها المصالح والحكام فيها إخوة في المعابد وشركاء في نفس الأضاحي، وكلهم، عرب وروم وأتراك وعجم، في سبيل ” المجد” حزمة عصي واحدة وحلفاء.
فالقدس منذ عقود تنتهك وتغتصب ولم يسعفها “الأحبة” إلا بقليل من شهد، رُشّ، على حرج، بالعلن، حين كان ملحهم ككذبهم يملأ جراحها ويسطّر للآتين من وراء الغيم حكمة “خوف الطغاة من الذكريات”.
وفي القدس لا شيء ثابت إلا القاف تغضب سكينة الوتر، ولا مهر فيها إلا وريد البنفسج ينضح ويسقي عطش الليالي ويهدئ جنون القناطر، وفي القدس تنفس السين باق في الأرحام ينبت الزهر والقلق على صفحات أرض عاقر.
لم نكن بحاجة للفقهاء ولعلماء السياسة والكهنة وللعرافين كي نستكنه بطن الغيب ونترقب ما سيقيء به فم سلطان السلاطين، فنظرة خاطفة واحدة على أشلاء ما تبقى من حلم “بلاد العُرب أوطاني” كانت كافية لترشدنا إلى منابع شهية ترامب نحو “قدس العرب”، وقراءة سريعة لمواقف من تبقّوا على سدّة تلك الدول الدامية والمستدمية، كانت كفيلة لتيقننا بأن جميع الموانع والعثرات قد سقطت والطريق إلى جهنم، بعد بزوغ معالم الشرق الجديد، لم تعد مرصوفة بالنيات الحسنة .
لم يقل الرئيس الأمريكي الكثير، لكنه، في الواقع، قال كل شيء؛ فلقد زوّد كل “قائد” مخادع وعاجز فرصةً للتبجح في ظل عروة الالتباس المقصود، وأتاح لبائعي الهزائم المضي في مواسم صيدهم الواهم، لكنه أعلن، في نفس الوقت، برعونة قيصرية عن انتهاء عصر السراب، وأوضح بفظاظة “الكاوبوي” و”استقامته” بأنه لن يكون بعد اليوم في بلاد الصبر والبرتقال حمل زائف، فالقدس عاصمة لبني إسرائيل، تمامًا كما أوصت بها السماء وكما يصلّي لها كل “المؤمنين” في أرجاء المعمورة وتحت جميع أسقف الهياكل .
إنها خطبة الدكتاتور، خطبة الدخّان والنار. ومن خلالها أسدل ترامب جميع الستائر عن مسرح الشرق الرتيب، وأزاح “الغباش” عن مراياه المهشمة. سنكون بحاجة إلى مزيد من الوقت والصبر والجرأة كي نستوعب، ونذوّت كيف عرّى “طيش” رئيس أمريكا حال القضية الفلسطينية، فهو لولا تَزوّده بموافقات “سامية” مسبقة ما كان ليجرؤ على إعلانه الواضح، ولولا تقييمه لموازين القوى الفعلية في منطقتنا لما غامر بإلقاء قنبلته التي كانت معدّة منذ زمن وموقوتة في دهاليز “البيت الأبيض”.
سنسمع، في الأيام القريبة، كثيرًا عن احتجاجات الرؤساء وزعل الملوك وشجب الأمراء، وغضب البرلمانات ودعاء رجال الدين بالموت على الأعداء، وستفور المنابر وتضج العنابر، وتشرئب الأعناق وتتموج الأصداغ وتنتفخ الصدور وتتجدّل العروق ولكن.. بعد حين كل شيء سيهدأ وتعود العرب إلى عروشها وبواديها، قبائل وعربان تسير في قوافل على هدي أجدادها، وتأوي إلى قصورها وخيامها، ليستأنف “الفرزدق” هجاء “جرير” وليفتش “ابن قيس” على قاتل أبيه، ويكرّ “المتنبي” على طريق التاج صديقًا للخيل وللشراب، و”قريش” ستستجير بإيلافها، ولن يبقى في الصحراء سوى السيف والرمل والصدى وبكاء الأرامل، وما عداها مجرد آثار لأشباح ولتاريخ دارس.
بالمقابل، من الصعب تصوّر ما قد يحصل في فلسطين بعد هذه الخطبة، فالأوضاع بدونها كانت على حافّة الانفجار ومعها تزداد احتمالات العاصفة، قد تنفتح صهاريج الكبت وينطلق الذلّ ماردًا والقهر يعشوشب كفاحًا، فأول الحرائق كانت في فلسطين دومًا قدحة على زناد نهار جمعة جامح! والفلسطينيون لن ينتظروا دعم الدول الإسلامية، هكذا علّمتهم الخسارة والتجربة، ولن يستمطروا غيث الدول العربية التي تحوّل معظمها لأمساخ دول ولمجتمعات نازفة تحت أنيار حروب الملل والفرق والطوائف والمذاهب الجارحة.
لقد حذّرنا في الماضي من تحويل الصراع على القدس إلى صراع ديني، ونوّهنا، في أكثر من مقال، من كون حكام إسرائيل المعنيين الأوائل في تحقيق هذا التحول، لأن إسقاط البعد السياسي القومي، واستبعاده عن محاور الصراع حول القدس، سيعفي إسرائيل وبعض مناصريها من قيادات دول العالم، من مواجهة المشكلة الحقيقية، ومن إجبارها على إيجاد حلّ يشكّل جزءًا من حلّ القضية الفلسطينية الشامل، فالصراع مع إسرائيل صراع على الأرض ومن أجل الحرية والاستقلال والدولة المستقلة.
لقد تبنى ترامب في الواقع هذا الخيار والمنطلق حين أكّد على خصوصية الأماكن المقدّسة وبضمنها المسجد الأقصى إلى جانب تأكيده على حريات العبادة لجميع الأديان، وكأنه يطمئن المسلمين في العالم على أن “الأقصى ليس في خطر”، وذلك في نصّ يشكّل صدى لنصوص انطلقت من نفس الأسس الدينية الصرفة.
وفي محاولة منه لتخفيف وقع الضربة حاول تجميل خطابه ببعض المساحيق، لكنها لم تكن في مجملها أكثر من تطمينات واهية تليت بدون أرصدة واقعية، وبدون ضمانات سياسية بجانبها، هذا علاوة على أنه لم يتعهد، كما توقّع كثيرون، بحلّ الدولتين ولا بأيّ حلّ سياسي آخر، بل اكتفى بتحميل الفرقاء مسؤولية مصائرهم متناسيًا عدم تكافؤ الفرص بينهم، واختلال موازين القوى بين دولة عسكرية محتلّة وشعب يكابد تحت نيران بنادقها.
أشارت قراءة الرئيس محمود عباس الأولية في الواقع إلى بواطن القلق والرفض الفلسطيني، وتضمنت تشخيصًا صحيحًا لخلاصات الكلام وخطورته، لاسيما بخصوص واحدة من أبرز إحداثيات ذلك الخطاب، التي وصفها الرئيس على أنها إجراءات “تصبّ في خدمة الجماعات المتطرفة، التي تحاول تحويل الصراع في منطقتنا إلى حرب دينية”.
منذ سنوات يواجه الفلسطينيون خيارات مصيرية ومؤامرات غير مسبوقة لتصفية قضيّتهم وابقاء الإحتلال الإسرائيلي فوق أراضيهم عن طريق إلباسه صورًا مخفيّة وبديلة، وفي آخر جولة من المعارك مع الاحتلال في القدس والتي تداعت بسبب تحرش المستوطنين فيها وفي المسجد الأقصى، أثبت أهلها أنهم حرّاس أبوابها النجب، وذكّروا من نسوا أو تجاهلوا، بأن المدينة ما زالت حبيبتهم البهيّة، وأن أسوارها لما تزل تصحو على رقصات عنادلها، وفجرها يتعمشق ظلّ بيوتها مرددًا تراتيل مآذنها التي في أعناقها يتكدّس البخور وينطلق صهيل الحجر.
قد تشكر مدينة القدس، بعد حين، الرئيس ترامب على “وقاحته”، لأنها قد تجبر “الاخوة الأعداء” على إتمام المصالحة والعودة إلى القلعة لترميم أبراجها وحماية أسوارها، ولأنها ستكشف مجددًا عن مضرّة كتائب المزايدين والمشاكسين والهتّافين المدمنين الذين سيجدون في الخطبة فرصة للتصفيق لأنفسهم، بدعوة أنهم صدّقوا حين قرّعوا القيادة الفلسطينية وتعويلها على النظام الأمريكي، والمفاوضات برعايته وما إلى ذلك من مواقف، تدفعهم للتمترس في خنادقهم الآمنة من دون أن يفعلوا شيئًا، أو يعطوا البدائل الفعلية الممكنة، خاصة في هذا الواقع العربي الذبيح، وقد يشكرونه كذلك لأن مواقفه ستكشف أوراق من بقي مع فلسطين ومن صار ضدّها ومن لاذ في عباءة النصوص واختبأ؛ لكنها، على جميع الأحوال، ستبقى علامة لأفول عصر وانقضاء نهج ودعوة لصحوة ومراجعة شاملتين وعكس ذلك سيبقي البلدة على عتبة أبواب جهنّم وفريسة للارتجال والفوضى.
خطاب ترامب كان صفعة مرتقبة و”نهرة” حشرت القيادة الفلسطينية في زاوية لم يألفوها من قبل، وعليهم، بدون شك، أن يواجهوها بالعودة إلى “التاء” على أن تكون أول الحروف لا سجينةً ومربوطة، وعليهم الرجوع والالتصاق بالشعب والتفتيش عن حلفاء حقيقيين موجودين في العالم.
على القيادة تبنّي لغة جديدة ووسائل نضال مبتكرة، وإستراتيجية قادرة على مواجهة “استقامة” ترامب المستفزة، أو إن شئتم “وقاحته” السافرة ووقاحة من تواطأ معه، وكان له في السر شريكًا، وإذا لم تفعل كل ذلك سيكون على القضية السلام وفي الناس المذلة!
03(5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *