أَكرَمَ المَكرَم، فحلَّ ضيفًا

مراسل حيفا نت | 24/03/2017

أَكرَمَ المَكرَم، فحلَّ ضيفًا
طوني باسيلا
قبل عدة أسابيع ذكّرت مديرة المدرسة الإيطالية، المربية جزيل أبو أيوب، طلابها والهيئة التدريسية باقتراب شهر آذار الثقافي وحثت الحاضرين على استضافة شخصيات تحمل رصيداً ثقافياً، وذلك في ظل مشروع “شخصية من بلدي”.
ولا شك في أن حيفا المحاصرة من بحر الحرية وجبال الشموخ، لم تبخل يوماً عن احتواء الشخصيات المناسبة لمثل ذلك الغطاء الثقافي الذي تحدثت عنه مديرتنا العزيزة، صاحبة القدر، خاصةً أن هذا البلد قد استنشق واستقبل، بفضل الهجرات الداخلية من كل قريةٍ وصوب، الكَم الهائل من أصحاب الروايات الشخصية والمشرِّفة بأعمالها وانجازاتها.
مكرم خوري.. ذلك الذي أصبح في تلك اللحظة اصطلاحاً وليس اسم علم، سيطر على ملعب خيالي وعلى ذاكرتي وعواطفي ومحطات انفعالي. وهناك حَمَلَني قلمي الى لائحة ضيوف آذار في غرفة المعلمين، وسجلت اسمه بهدف استضافته ليلتقي بطلابي في غرفة الحادي عشر (ب). على الرغم من شعوري الذي خاطبني وحاول اقناعي بأن الأمل أمسى ضعيفاً، وذلك لأن الغيوم التي تخترقها وسائل النقل الجوية تحظى بلقائه أكثر مني، أنا ابن بلده. ولكنّني قلت في قلبي، ما عليّ إلّا أن أحاول.
أثناء محادثتي الهاتفية الأولى معه جعلني أشعر بأن معرفتي به بدأت منذ سنوات. فمنذ اللحظات الأولى قضى المكرم على جميع مظاهر الإحراج والارتباك عندي، وغمرني بلطفه وإنسانيّته، ليس بمجرد قبوله لفكرة حلوله ضيفاً عليّ وعلى طلابي، إنّما عندما راح يبادر في التخطيط والتحضير للقاء الذي سيجمع بين ثلاثة أجيال مختلفة تربط بينها رواية تاريخية واحدة ومحبّة الإنسان وعشقه ورغبته في الدخول إلى أعماق محيط الجيل السابق الذي عانق الستة أيام وأكتوبر وأحداث الأرز بوعي فائق.
تواعدنا على اللقاء في أول الربيع، ولم يخذلنا أبو جميل. كانت ابتسامته التي رافقت خطاه، حين طلّ علينا، قد كسرت جميع حواجز التقاليد الرسمية بين الضيف والمستضيف، وكذلك فإن عفويته وطبيعته التلقائية قد مهّدت لورشةٍ ثقافية اجتماعية مبسّطة لا يسودها اهتزاز ولا تموّج، لا سيما أن تلك الورشة تميزت باستعراض العديد من المحطات الثقافية والإنسانية والفنية التي التحفت وتكتّلت جميعها تحت عنوان “سيرة المكرم الذاتية”، تلك السيرة التي تكللت بالنجاح وبماضٍ عريقٍ لم تنتظر البلبل الصداح ليذيع مجدها ولا الكناري لينشد ويزقزق مردِّداً وموثّقاً إبداعاتها السحرية. تلك السيرة الغزيرة التي غطت فضاءً واسعاً مليئاً بالتحديات والأمل والعمل بأساليب ملتصقة بواقع مُركَّب وضمير طيب.
في البداية رحّبت به أمام طلابي، وكنت قلقاً من أن يطول حديثي، لذلك حاولت الاختصار، لا بل واختطاف المقدمة، ولكنّني لم أستطع أن أربط جأشي حيث ظهر انفعالي واضحاً أمام الحضور.
عاد مكرم في بداية حديثه إلى طفولته في عكا، وشدّنا لنعيش ما يتذكره من الماضي المتروك الذي لا يستطيع أبناء الجيل فهمه إلا إذا قصد الأولياء ذلك. وهنا استَعرَض الضيف أمرين، الأول، دور المدرسة آنذاك، في تطوير موهبته الفنية، والثاني، تشجيع عائلته الدافئة لقدراته وأساليبه المميزة كطفل تقوده البراءة لتحقيق طموحات “الولدنة”، ليقتلع الشوك ويشق طريقه نحو النجومية فيما بعد.
أجمل ما عند أبي جميل وأكرم ما عند المكرم هو عدم تباطئه في استعراض جميع فقرات حياته. وقد لاحظت مراراً اعتزازه بسيرته وبتطوير فنه الذي تحدى جميع الظروف في سبيل النجاح والوصول إلى الرقي الحضاري. فقد كان ذلك الفنان المرهف عالقًا بين ظروف تجر به نحو قيود العبودية وبين حرية الضمير التي أرادها أن تنبت، مثل الفلاح الذي يسقي الشتلة بدموعه حتى تنمو وتعلو وتصمد.
هو يُحدِّث ويُحدِّث، وإلى جانب إصغائنا الفعّال تزورني بين الحين والآخر موجاتٌ حاملة على جناحيها ذكريات الزمن الجميل، أيام “العم خليل” و “جارك قريبك”، التي انتَظَرنا مشاهدتها آنذاك، أيام التلفاز الأبيض والأسود والحياة البسيطة في قريتي الحبيبة وحارتي الجميلة التي لقّنتني وعلمتني العراك في الحياة الصاخبة وجهّزتني لتعبئة استمارات الانخراط في المستقبل المجهول، الذي جاءنا فيما بعد يرتدي أثواب الصراعات الحياتية والتحديات القاهرة ومخالب الحرب وصحراء الجهل التي ألزَمَت أبناء ذلك الجيل وما قبله على الوقوف أمام رياحه الرمليّة وصدها بواسطة فتح النوافذ الثقافية بجوانبها المتعددة، ولا شك في أن المكرم بحلقاته الفنية، كان له قسطاً حلواً في بناء ذلك النسيج.
لا حد ولا مدى لسعادتي حين التقيت بالإنسان الذي جمع بيني وبين نفسي، بين ماضٍ وحاضرٍ، ذلك اللقاء الذي تزين بحضور أولئك الذين يُعلِّمونني وأعلِّمهم.. طلّاب الحادي عشر (ب)، في المدرسة الإيطاليّة والدير الفرنسيسكاني المليء بأزهار اللبرالية التي زرعتها راهبات عظيمات قبل الهجران. تلك المدرسة المتعرشة بجوار وادي النسناس والضجيج الرومانسي.. وما أجمل من ذلك؟
لم يلوّح ضيفنا يوماً بالشعارات السياسية ولكن عطاءه المتوهج مَثَّل وجَسَّد واقعاً مميّزاً تبدلت مركباته بين فترةٍ وأخرى. فقد تطرّق بعذوبة فنّه للقضايا الاجتماعيّة اليومية وللقضايا الإنسانيّة التي بلغت ذروتها في فيلم “ابن الله” (הבן של אלוהים)، الذي عرض قصة رجل مسنّ نجا من المحرقة النازية، وعاد إلى بلده سالونيكي، ليفتّش عن ذلك اليوناني الذي ساعده في النّجاة. وقد نال أيضًا قسطاً مُشرِّفاً في المسلسل الإنجليزي The White Wing، حيث لعب دور رئيس السلطة الفلسطينية في محادثات “كامب ديفيد” سنة 2000. وقبل فترةٍ وجيزة أشرف على إعداد وإخراج مسرحيّة “عائد إلى حيفا”، التي تُعرَض حالياً في مختلف أنحاء البلاد.
هذه الزيارة اللطيفة جعلت مقدّمة الربيع مميّزة في محيط مدرستنا، ونثرت الورود الجميلة التي ما زلت استنشق رائحتها حتى هذا الحين.
unnamed (19)

unnamed (24)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *