عن رذاذ طارق عسراوي الخفيف

مراسل حيفا نت | 19/09/2016

رام الله 19-9-2016 وفا- نداء عوينة

يقف طارق عسراوي على حافّة الشعر، يكاد يخطوها لكنه لا يفعل. في كتابه “رذاذ خفيف” يعرض طارق عسراوي التقاطات فريدة وذكية ومتنوعة بلغة جزيلة تفوق النص أحياناً لكنها توفي المشهد حق وصفه.

“رذاذ خفيف” هو الكتاب الأول لطارق عسراوي، صدر عن مكتبة كل شيء في حيفا في نيسان 2016، يقع في 144 صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من اثنين وخمسين نصاً تتراوح بين القصة والومضة والنثيرة، تحتوي نصوصا مختلفة موضوعياً وعضوياً، يمكن تصنيفها إلى ثلاث ثيمات أساسية هي: قصص الشهداء، وحكايات المدن الفلسطينية الفقيدة، وبقايا من ذاكرة الكاتب.

بُنيوياً، تقع نصوص الكتاب بين ما يشبه اليوميات وتقترب من القصة القصيرة، بأسلوب خارج عن الحبكة الكلاسيكية للقصة؛ مستطردا قليلاً لكنه متين، مستند إلى أرضية صلبة، إما تاريخية أو مشهدية تميزها دقة الملاحظة والتفاصيل المرهفة بتوليفة خفيفة وإفراط آني في الدراما يصل بالنص إلى منطقة سريالية متنامية حسّياً وشعوريّاً مرتكزاً على حجر تاريخي أو آتيا على لسان راوٍ أو على لسان الحكاية نفسها، بضمير المتكلم.

“تعال أطَقِّعلَك راسك، كانت تلك رشوتها لي، لأدسّ رأسي فرحاً بحجرها، فتنساب كفها اليمنى بين خصال شعري تُفَلّيه وتمسده، فأصير مثل قطٍّ يتمطّى دلالاً بين يديها على عتبه البيت.”

لا تغيب اللوعة عن رذاذ خفيف في الكتاب، فنشاهد فيه ثلاث مناطق شعورية تطغى بصبغتها على نصوصه؛ هناك الحنين إلى المدن الفلسطينية ومحاولة للتمسك بتاريخها في بحث عن ذات الكاتب في الذاكرة الفلسطينية، التي ربما هي موروثة في العقد الاجتماعي النفسي لكل الفلسطينيين؛ حيلة أخرى للبحث عن علل الوجود الفلسطيني في الأرض الفلسطينية والتشبث بها نصاً أو روحاً، أو على الأقل في وصف ثوب امرأة فلسطينية من حيفا؛ ربما هي عملية حجّ نفسي إلى أماكن محجوبة عن نظره وواضحة للعيان في قلبه.

“قد فهقت في سمعي وبصري! هكذا تلقيتُ خبر موته، وهو الحاضر دائماً دون موعد أو اشارة. بحثتُ عنه يوماً، وجمعت كل شوارع المدينة.. ولم أجده! وهو الذي لم يغب عن طرقاتها لحظةً واحدة، فتراه كأنه تناسخ في كل جادّة ودرب. سعيد، ابن الأرصفة المبتلّة بريق الشتاء الساخن، وسائق الوَهْم البديع. هو على يقين أن الأسلاك الرفيعة التي صنع منها مركبته وراح يقودها تشبه في حقيقتها شجرة الكينا التي كان يلجأ إلى جذعها، كأنها أمه التي يرتمي على حضنها فينام.”

أما ذاكرة المكان والتقاط الحدث اليومي فتحل فيها عمان محل يافا، وأرصفة جنين ورام الله محل عكا، حيث لا يخرج الكاتب عن وعيه، ولا يتخطى- في الوقت ذاته- اغتراباً يصيب المرتحلين جميعهم، وإن ولدوا في الأماكن التي يعيشون فيها، فله مثل ما للاجئين ذاكرتان، واحدة عاشوها بأنفسهم وأخرى عاشوها في الحكايات التي يسمعونها فيحملونها في وعيهم زخماً عاطفياً يدفع الشعور بالمكان إلى مناطق أفلاطونية أو طوباوية آتية من الحرمان؛ هو حنين ناطق بصوتٍ عاديّ يرى عينا لعين مع القارئ.

“من هنا وُلد القول السرمدي بأن عكا لا تخشى البحر! وأن ما ترمّد منها يصلح لأن يكون مهداً نارياً للفينيق، الذي ترك بقوادمه ندبة على وجه نابليون، وهو يخبّ في وحل الهزيمة والرمل. وللنور مسجدٌ سيقيمه ذلك الفتى أحمد باشا الجزار، أو أحمد البوشناقي، الآتي من بلاد البلقان، وكان مولى يُباع ويُشترى في إسطنبول، فيشتريه الباب العالي، ويضعه حارساً للحرملك، فيغدو بعد سنين قائداً حاكماً، يكسر شوكة نابليون على أبواب عكا.”

اللغة في الكتاب جزلة ومتنوعة؛ توظف مفردات وتراكيب لغوية كلاسيكية خارجة عن السياق المعاصر الذي تدور فيه أحداث الكتاب، وتحتوي دون أي حذر تعابير عامية ومحلية تأتي بشكل طبيعي في السياق ذاته، متباينة بين نص وآخر، ومتأرجحة بين الوصف المستفيض والصورة المباشرة، يحدها في جميع النصوص مَطلعاً متقناً ببراعة، وخاتمة مفاجئة تجعل القارئ يعيد التفكير بالنص كله من جديد.

“ردّ ساخراً: الشفّاف لا يستر العَوَر، ولا يستطيع إخفاء ما أصاب الجلد من عيبٍ إلا الأسود الآثم، وإنني أخشى التلطخ بالحداد، ثم راح يغني: بويا، لمّع لمّيع، جلدك حرام يضيع.”

لماذا يكتب طارق العسراوي؟ وما الذي يريد قوله؟

“استغرق العمل في الكتاب عاماً ونصف، بدافع وجدانيّ للانتصار لحكاية الشهداء وتوثيق قصص المدن وساكنيها. لا يمكن أن تكون الكتابة دون لوعة حين تتحدث عن مدن فلسطينية محجوبة بالجدار وعن حكايات لأطفال استشهدوا بعمر الورد،” يقول عسراوي، “سؤال المقولة صعب، فرغم كل هذا التشويه والنكران للحق والظلم والاستلاب ما زالت حكايتنا الفطرية تبحث عن مدينتها الاولى وبيتها الأول، أما على الصعيد الذاتي، فالأمل بالغد كبير رغم سوء الواقع.”

“هذا اختلاقٌ مشوّهٌ من الجاني في تسمية نصلِ الجريمةِ، ليبدو جميل الوقع في سرد قصة شمشون التي يقرأها لأطفاله كل ليلةٍ قبل النومِ كي يعدَّهم للخدمة العسكرية، فالفراشاتُ لا تلهو بورد الأكاليل.”

في مرافعته عن الشهداء والمدن والشوارع والأرصفة يثير أسئلة أكثر مما يجيب، ويُعلي مشاهدات تمر يومياً دون أن تلاحظ، جاعلاً منها حدثاً درامياً بليغاً وقصة تدعو للتأمل.

رذاذ خفيف كتاب جميل، يستحق القراءة ويجيد مقولته.

يحمل طارق عسراوي درجة الماجستير في القانون الخاص ويعد للدكتوراه في قانون الاثبات، ولد في جنين ودرس الحقوق في الأردن، حيث بدأ حياته المهنية فعمل متنقلاً بينها وبين فلسطين. بدأ الكتابة منذ دراسته الجامعية ولا نعتقد أنه سيتوقف عنها يوماً.

ـــــــــــ

ن.ن/ ف.ع%d8%b1%d8%b1%d8%b113483059_10157061701900416_4128319010938609756_o

10487586_10155065866250416_4230564321208458362_n

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *