بسيخْوَطني 3: في القيادة والفراغ بين شاكيد ودرعي وكتيبة جند

مراسل حيفا نت | 17/07/2016

جواد بولس
حفِل شهر رمضان المنصرم بعدد من الأحداث التي مرّت في فضاءات مجتمعنا العربي بهدوء، وبدون أن تترك أثرًا أو تبعث صدًى على المستويين الشّعبي العريض والقيادي، وذلك رغم كونها، برأيي، وسائل إيضاح لأخطر أزمة تواجهها الجماهير العربيّة في إسرائيل: أزمة القيادة السّياسيّة.
في تشخيص تلك الأزمة كتبت قبل أربعة أعوام مقالتين، وفيهما اقترحت على القيادات العربيّة وعلى الجماهير فكرة إجراء امتحانات البسيخْوَطنيّة، وضمّنتهما رزمة من المسائل والحالات الحياتيّة التي فرضها الواقع علينا، ونحن الذين صحونا ذات يوم من حلم الأزل الزهْري إلى رهان العدم الأسود: مواطنون عرب صمدوا أمام الخديعة، وما غرّتهم وعود إخوانهم الخلّب، فبقوا متشبثين بأمهم الأرض وبالوطن، مأوى الطمأنينة والعزة، متمردين على أصوات الشرق “الخفّاقة في الشّهب” ومتحَـدّين “بقبقة” الدم الصارخ من دير ياسين والطنطورة وعيلبون وأخواتها.
حياتنا اليوم في إسرائيل ليست كتلك التي سادت في سنوات الضياع وطيلة أيّام التّدجين والصّهر، وإسرائيل اليوم دولة كبرى/صغرى، والعرب فيها أقليّة صغرى/كبرى، ومواقع الاشتباك والتّداخل بينها كدولة وبين مواطنيها العرب صارت لا تعدّ ولا تحصى، وكثير مما تطرحه البيادر من تحدّيات ومعاضل لا يجد من يضع له المساطر والحدود لإرشاد النّاس إلى رأي وطني صائب وطريق السّلامة، والملازم التي تمنعهم من البلبلة والفلتان والاختيارات البائسة والسّير في سبل النّدامة.
في حينه كتبت في امتحان البسيخوَطَني الأوّل أنّ “حياتنا أصبحت معقَّدة.. في الماضي، في زمن الجرح الأوّل، كانت الألوان طيفًا، واليوم كلّ لون صار أطيافًا. كان العميل من يسلّم معلّمًا في قرية عزلاء منسية تجرَّأ على قراءة “الاتّحاد الشّيوعيّة”، فيكون الخراب في بيته وله المنفى، واليوم من يحدّد ماذا؟ وما العمالة وكيف تكون الخيانات؟”
أربعة أعوام مرّت دون أن ينجح مجتمعنا بإنماء أجسام سياسيّة شعبيّة قياديّة تمتلك رؤى شاملة وواضحة حول وجودنا كأقليّة في دولة ما زالت “أمعاؤها” تستعصي هضمنا، أو جسم لديه تصوّرات حول مستقبلنا وبرامج عمل لا تعتمد على الشّعارات الفراشيّة أو على الأدعية العصماء الناريّة تُتلى من على المنابر يتيمة من غير قطران يرافقها ليشفي الجروح ويداوي النفوس المتعبة والمريضة.
فاللجنة العُليا للجماهير العربيّة فشلت، لغاية اليوم، من استحداث نهج عمل جديد، وما زالت تراوح لاهثة على ذات السّفوح وفي نفس الوهاد التي راوحت عليها، وفيها اللجنة في عهدها السّابق؛ وعلى الرغم من تعويل الكثيرين على نتائج الانتخابات لرئاستها يتّضح مع مرور الزمن أنّ ما ضمنته القوى السّياسيّة والدينية المشاركة في مؤسساتها من مرابط ومفاصل أقوى من كلّ رئيس منتخب ومن إمكانيّة تحقيق أحلامنا الورديّة المشتركة.
بالمقابل يقتصر نشاط اللجنة القطريّة لرؤساء السلطات المحلية على مجموعة قضايا خدماتيّة تتفاوت قيم ريوعها حسب المنطقة والبلدة؛ وعلى أهميّة هذه الريوع لا يجوز أن نتوقّع من اللجنة أكثر مما تستطيع فعله ومن طاقاتها الحقيقية، ففاقد الشّيء لا يعطيه، والجميع يعرفون أنّ الانتخابات لرؤساء السّلطات والبلديات المحلية جرت في السنوات الأخيرة بمعزل عن تأثير الأحزاب والحركات السياسيّة الوطنيّة، وأفرزت في معظم المواقع رؤساء يخضعون لولاءات عائليّة أو طائفيّة وفي طليعة حساباتهم حماية مصالح من دعموهم، ومن بينهم عناصر حكوميّة ومجموعات ضغط لا شأن لها في مصالح الوطن وحقوق الجماهير العريضة المدنية والقوميّة.
وتبقى الأحزاب السياسيّة الرئيسية ضعيفةً ومتقهقرة، فعن فقدانها لمكانتها وأدوارها كتبت في الماضي كثيرًا، ولن أضيف إلّا أنّني أزداد، وكثيرون معي، من يوم إلى يوم، قناعة بحقيقة واضحة مفادها أنّ تاريخ صلاحيّة هذه الأحزاب والحركات، إن بقيت على ما هي عليه اليوم، قد نفد، ولم تعد مؤهّلة وقادرة على قيادة مجتمعنا إلى شواطئ السّلامة والأمان.
الفراغ الوطني يؤدّي إلى تيه شعبي. وعن هذا التيه سأحدّثكم، عن ثلاثة أحزان حزيرانيّة تفاعلت في فراغ وصمت “وطنيّين” وأدّت إلى وتوتة وبلبلة وخسارة.
في الثّالث والعشرين من حَزيران/يونيو المنصرم تزامن وقوع حدثين منفردين، وعلى الرّغم من دلالاتهما العميقة لم يشغلا، بصورة جديّة، عناية القيادات السياسيّة العربيّة والحركات الوطنيّة والإسلاميّة في البلاد، فالنشاطان انتهيا، ومعظم هؤلاء القادة يمارسون بانتهازيّة موجعة طقوس عجزهم في مشهد يعكس حالة الفراغ الوطني، ويبرز عوج التثقيف السياسي الهزيل وزيف شعابه؛ فلواء الشمال في نقابة المحامين الإسرائيليين دعا إلى إقامة حفل إفطار رمضاني في قاعة “ميس الريم” في قرية عرعرة التي في المثلث العربي، وذلك بمشاركة رؤساء المؤسسة القانونية والقضائية في الدولة تتصدرهم وزيرة القضاء شاكيد، ومعها رئيسة المحكمة العليا مريام نائور، وبحضور سعادة القاضي سليم جبران والمستشار القانوني للحكومة مندلبلاط وحشد من القضاة والمحامين والمحاميات العرب. جرى ذلك بالتزامن – بدون أي علاقة بينهما- مع إقامة حفل آخر في رحاب القاعدة العسكرية “دوتان” وتحت “النصب التذكاري للجندي البدوي”، حيث أدى جنود الفوج السادس عشر العرب من هذه الكتيبة مراسم القسم والولاء لحماية والدفاع عن دولة إسرائيل ومواطنيها وحدودها. وكما ورد في الأنباء فلقد حضر الاحتفال أفراد عائلات الجنود الذين جاؤوا داعمين وفخورين بأبنائهم، وعن أحد هؤلاء المجنّدين نقلت المواقع تصريحًا يفيد: “أنا متشوّق جدًا لهذه اللحظة التي بها سأحمل القرآن والسّلاح لكي أقسم الولاء لدولتي ..”.
صفحات الجرائد الإسرائيليّة والمواقع صدّرت ذلك الخبر بصورة للجنود، وهم يحملون السّلاح بيد في حين يضعون الأخرى على القرآن لحظة أدائهم للقسم واليمين.
جنود الكتيبة الصحراوية أقسموا أيمانهم، واحتفلوا مع عائلاتهم وعادوا إلى مواقعهم بدون أن يلتفت أحد لما جرى، في حين هاجمت وشتمت مجموعات صغيرة من ناشطين سياسيين ومحامين المشاركين في حفل الإفطار بسبب مشاركة وزيرة القضاء شاكيد وآرائها العنصرية ضد العرب.
بفارق أيّام وفي الثامن والعشرين من حزيران/يونيو أغرقتنا الصّحافة بنبأ عن إفطار رمضاني دعت إليه “الدائرة الإسلامية” في قسم الطوائف في وزارة الداخلية الإسرائيلية، وذلك في نفس القاعة المذكورة في قرية عرعرة وبحضور ورعاية وزير الداخلية آرييه درعي (عن حزب شاس المتدين)، وبمشاركة جميع الأئمة والمؤذنين من مختلف أنحاء البلاد ومعهم العديد من رؤساء السلطات المحلية العربيّة والبلديات والشخصيات الاعتبارية. وكما جاء في الأخبار فلقد “زفّ” الوزير خبرًا مفاده أنّ وزارته أخذت على عاتقها مسؤوليّة تقديم خدمة نقل المسلمين من كل أنحاء البلاد للصلاة في المسجد الأقصى.
بدأ حفل الافطار وانتهى، وفي الشّوارع تهاليل عيد ونعاس وأقلام الكتبة خرساء، علمًا بأن كل من قرأ الخبر شاهد مجموعة من الصور، وفيها يظهر المئات من رجالات الدين المشاركين والشخصيات القيادية وهم يصغون بجلال لكلمة الوزير درعي، وكذلك صور لتلك الحافلات وفي مقدّماتها تظهر اليافطات وعليها كتب “وزارة الداخلية، قسم الطوائف، الدائرة الإسلامية”.
من يقرر ماذا وكيف؟ كان السّؤال وبقي. فأين الحكمة في مهاجمة وزيرة جاءت مدعوة بصفتها وتشتم في عرعرة، في حين يحج إليها وإلى أمثالها العشرات من المحامين الطالبين منصبًا قضائيًا أو ترقية أو توصية، ومعظمهم يصمتون ويغضّون الطرف عن إفطار شبيه يشارك فيه وزير الداخلية درعي. ومن مثلكم، يا معشر المحامين، يعرف ماذا تكون هذه الوزارة وما سياساتها تجاه العرب؟
إنّها أسئلة البسيخوَطنيّة المستجدّة، فالسّنين لن ترحم، وإسرائيل لن تغفو، ولحاء الأيّام سيلاحقكم، وصمغ الحقيقة وراءكم، لأن واقعنا مركب فكيف سنجد للحياة السبلا؟
لقد سألت قبل أربعة أعوام:
“هل عمل العربي منّا في وزارة الشرطة متاح ومسموح؟ هل نطالب بأن يكون نائبَ قائد الشّرطة العام عربيًا منّا؟ وإن كان ذلك محظورًا وطنيًا فهل نطالب أن يكون قائد المنطقة الشمالية عربيًا منّا؟ هل نقبل أن يكون قائد شرطة مكافحة المخدرات أو السّير عربيًا منا؟ هل تملك قيادتنا موقفًا وردودًا؟ وماذا سيقول الشيخ والقائد والوطن لجاره لابس الكحلي إذا جاءهم سائلًا: ما هو صوت الوطن وماذا سيرضي الله يا جاري؟ أأنا مخطئ أم معيب أم خائن؟ أم هي الدنيا ونحن في مراكبها ساعون؟”
أعرضتم ومضت الأعوام حتى جاءنا ابن قانا لواءً، فأين أنتم من سفور الواقع وحزم الأيّام؟
وقد تغاضيتم أيضًا عن الصّراخ وتناسيتم إلحاح السّؤال: “ماذا نقول لآلاف السّواعد التي تخدم في مصلحة سجون إسرائيل؟ من أصغر السّجّانين إلى أعلى المراتب والسّلطة والنفوذ؟ آلاف لم يسعفهم حظ وما تسلّحوا بشهادة، فحوتهم وظيفة، وأعالتهم بمعاشات سمينة، فبنوا عائلات وولاءات. هل صمت الفراشات حل وموقف؟ وكيف لأولئك ألا يفهموا صمت الوطن كموافقة ورضا؟”
ومضت الأعوام وفي الجيش كتيبة صحراوية تكبر وتخرج فوجها السّادس عشر وتربي أبناءكم جنودًا ومنهم العقداء والعمداء والجنرالات فيحبّون إسرائيل/الوطن.
صمتكم هزيمة وبين النّاس ضياع..
وعندما سألتكم قبل أعوام: “هل نسمح لمحامينا أن يعملوا بمكاتب نيابات الدولة أسوةً بزملائهم اليهود؟ هل من حقّنا أن نطالب بأن يكون نائب عام لواء الشّمال عربيًا منا؟ أم هذه “ثقيلة” وخيانة؟ وإن كانت خيانة فهل نطالب من بدأ العمل في النيابة بالانسحاب؟” أعرضتم وتشاغلتم، فمضت الأعوام وجاءتكم شاكيد بعصاها وبالجزرة، فهل ستبقون أسيري عقالاتكم وتتهامسون في ظلّ الشّجرة؟”
من يقرّر ماذا؟ يصرخ واقعنا وينادي على قيادة!
03(5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *