هشام نفاع: الهبّة لمقام النبي موسى والصمت على عشرات مقامات يسجنها الاحتلال ويعرّضها للخراب

مراسل حيفا نت | 01/01/2021

عن ملحق صحيفة “الاتحاد”

ملخّص لمشهد فلسطيني تاعس

القضيّة التي قفزت لتحتل صدارة الجدل الفلسطيني، بغير قليل من العصبيّة والتعصّب، وقليل جدًا من التروّي ومحاولة بناء المواقف على ركائز من حقائق، تصلح بطبقاتها وتداعياتها لاستخدامها عدسة تطل على المشهد الفلسطينيّ الطاغي في العام المنصرم وربما العقد المنتهي.

وزارة السياحة الفلسطينية هي من أعطت التصريح لتنظيم الحفل (مقام النبي موسى)

وصلت شظايا الأنباء بدايةً عن حفلة تمورُ بالخمور والمجون لشباب “نصارى” في مسجد النبي موسى بالضفة الغربية المحتلة. لم يمضِ وقت طويل حتى تبيّن ألاّ خمور فيها ولا مجون، ولا نصارى ولا مسيحيّين بمرتبة حصريّة. هذا طبعًا لم يكن ليخفّف من إشكالية إقامة حفلة في مسجد، مثلما تواصل الزعم في مواقع (كوارث) التواصل الاجتماعي.

لاحقًا راحت تتراكم معطيات جديدة، منها: أن الحفل جاء ضمن مشروع لـ”موقع قناة Beatport الضخم لترويج الموسيقى الإلكترونية عالميا، وكذلك Twitch، إحدى أكبر القنوات العالمية للعروض الموسيقية الإلكترونية، لإقامة عروض لفنانين فلسطينيين في مواقع فلسطينية أثرية بالتعاون مع الفنانة الفلسطينية سماء عبد الهادي المحترفة بما أصبح يعرف بموسيقى Techno في العالم”. (هنا أعتمد على تقرير الصحفية نائلة خليل، “العربي الجديد”).

كذلك، تبيّن أن وزارة السياحة الفلسطينية هي من أعطت التصريح لتنظيم الحفل. ومما ردّت به على مقدّمي الطلب: “نشكر لكم اهتمامكم بعمل هذه العروض الهامة على المستوى المحلي والدولي في مواقع تراث فلسطيني ذات قيمة عالمية، يسرنا إبلاغكم بموافقة الوزارة على إقامة هذه العروض”، وأكدت على ضرورة الالتزام بعدد من الشرط بينها “احترام الأهمية والخصوصية الدينية والثقافية للموقع”.

موقع النبي موسى ليس مسجدًا فقط بل هو مقام يحتوي على مسجد. (المقام مؤلف من ثلاثة طوابق بمساحة 4500 متر مربع ويضم 144 غرفة متعددة الاستخدامات ومحاط بسور على ارتفاع ما بين ثلاثة وأربعة أمتار). احترام الخصوصية الدينية للمكان هو جزء من احترام الحق في الكرامة: كرامة كل من يرى في الموقع مقدسًا، ومن لا يستقيم لديه هذا مع إقامة حفلات فيه. خصوصًا بالصفات التي قُدّم بها الحفل قيد الجدل – والتي تبيّن أن معظمها غير صحيح. هذا يجب فهمه وتفهّمه.

وسط تصاعد الجدل الذي شمل، كالمتوقع جدًا يا للتعاسة، نبرات مهدّدة وكلمات متوعّدة وتصريحات محرّضة بل حتى تسجيلات لشباب مسلّح ببنادق مُشهَرة، تبيّنت حقائق أخرى. منها: تم أواسط تموز 2019 الإعلان عن “انتهاء أعمال ترميم مقام النبي موسى وتحويل جزء منه إلى نزل فندقي”، في إطار منحة أوروبية بقيمة خمسة ملايين يورو، كما نقلت وكالة “يورونيوز” مع وكالة “رويترز”.

الفحص السريع يبيّن أن عدة مواقع فلسطينية وعربية نشرت النبأ بالعنوان الحرفي نفسه. اختتام أعمال الترميم جرى بأعلى حضور رسمي فلسطيني: رئيس الوزراء محمد اشتية. والذي قال: “عملنا في مقام النبي موسى يمثل بالنسبة لنا الحفاظ على التاريخ والتراث الديني والروحي… سوف يدار الموقع من شركة فلسطينية تمثل القطاع الخاص الفلسطيني”.

ممثل وزارة وزارة السياحة والآثار الفلسطينية قال لرويترز “جرى ترميم الموقع بما لا يتعارض مع قيمة الموقع الدينية والعالمية حيث أنه مدرج على اللوائح التمهيدية للائحة التراث العالمي”. وزيرة السياحة والآثار رولا معايعة صرّحت أن “هذا مكان تاريخي مهم جدا من عهد المماليك قمنا بترميمه بشكل مجمع سياحي لاستقطاب السياحة من كل دول العالم وبالأخص السياحة الإسلامية.. بالإضافة إلى القدس والخليل سوف يكون هذا الموقع هو من أهم الأماكن التي يتم زيارتها من قبل السائح”. أما ممثل الاتحاد الأوربي فقال إن “هذا المقام كان وما زال أحد أكبر المواقع التاريخية في فلسطين وارتبط تاريخه بالطرق الصوفية من غناء روحي وإنساني. لقد كان المقام منارة ثقافية ودينية”.

إذًا، لو بنينا الاستنتاج على حقائق وليس على أهواء أو فورة غضب أو غرائز، فهو كالتالي: لم تتم إقامة حفل في مسجد. بل في باحة موقع أثري حضاري ديني، خُططت ونُفّذت فيه أعمال ترميم ليكون عنوانًا يقصده سيّاح وزوّار بصفته الثقافية والدينيّة.

هنا يُسأل السؤال: هل يصحّ أن يستقبل المكان أناشيد وموسيقى ورقصات صوفيّة، مثلما في بعض مساجد العالم (تركيا خصوصًا) وليس في مقامات فقط؟

الجواب: نعم. وقد عقدت أمسيات صوفية في أيار 2019 في الباحة نفسها، بالتعاون ما بين جمعية “الكمنجاتي” لنشر الثقافة الموسيقية في المجتمع الفلسطيني، والمجلس الصوفي الأعلى في بيت المقدس. ولخّص المنظمون أن “اللقاءات والليالي الصوفية استمرت لمدة أربع ليالي، تم خلالها عقد حلقات نقاش، واحتفالات روحية في النبي موسى، شارك فيه الشيوخ والصوفيين والموسيقيين من فلسطين وجميع أنحاء العالم”.

ماذا إذًا، بما أنه لم يكن حفل مجون ولا خمور، هل الخلاف بالتالي فقط على نوعيّة الموسيقى التي يجوز عزفها. لا أستخفّ بهذا السؤال. وهو ليس مقتصرًا علينا. الكنائس الأوروبية أيضًا انتقائية جدًا فيما يُعرض في منشآتها من موسيقى. هي أيضًا غير مغرمة بالموسيقى الالكترونية. ولكن لتُحدّد الأمور في حجمها وإطارها، لا ان تنفلت دون عقال ولا تعقّل.

يجدر النظر الى الحاصل من زاوية أخرى: لماذا أخفت الألسن الرسمية الفلسطينية حقيقة ترميم المكان الذي سيحتوي على غرف فندقيّة، ومقاهٍ، ومطاعم، وربما متنزهًا أخضر للاستجمام والمكوث؟ أي أنه ليس مجرّد مسجد اقتحمه محتفلون. لماذا تُركت المشاعر والأعصاب والعصبيّات تشتعل، فطال بعض النار ما تم ترميمه بأموال كبيرة واحتفالات علنيّة؟ ألم يكن من شأن المسارعة الحكومية والرئاسية لتحمّل المسؤولية، خفض علوّ اللهيب، حقيقةً واستعارةً؟

لكن هناك أسئلة أخرى لآخرين، للجميع بالأحرى: لقد أخطأ منظمو الحفل باختيارهم الموقع المحدد لموسيقاهم المحددة. لنفترض هذا ونقبل به ونتحفّظ منه وحتى نستنكره. ولكن من تثور ثائرته على هذا يُفترض أن يثور أكثر وأكبر وأقوى وأشدّ وأحدّ على مقامات أخرى لا “تتعرّض لاعتداء موسيقي”، بل تتعرّض للتخريب والدمار المنهجي بموجب سياسة، ويُمنع المؤمنون من الوصول إليها لأن الاحتلال الإسرائيلي سجنها داخل مناطق يُحظر دخولها: مواقع عسكرية ومستوطنات ومحميّات وغيرها.

إنّ من اندلع غضبه على حفل موسيقي في مقام النبي موسى يجب أن يتضاعف غضبه مرّات ومرّات على المعلومات والحقائق التالية:

تحت عنوان “مفتوحة لليهود فقط”، استعرضت منظمة “محسوم ووتش” في تقرير لها قبل أشهر، ظاهرة تتفشى في جميع أرجاء الضفة الغربية المحتلة، وتتمثل بـ “سيطرة إسرائيل على سلاسل الجبال وقممها في جميع أنحاء الضفة الغربية والتي لم تستثنِ أماكن العبادة المقدسة للفلسطينيين. فقد تم ضمها إلى المستوطنات بأوامر عسكرية وجرى إدخالها في نطاق مناطق التدريبات العسكرية، المحميات الطبيعية والمواقع الأثرية”.

ويشرح التقرير: أضرحة الأولياء المسلمين بقبابها البيضاء من أكثر المواقع تميزاً في المنظر الطبيعي للبلاد. في بعض الأعياد تقام مواكب حول الأضرحة والتي عرفت بأسماء مختلفة – “النبي” و “سيدنا” و “الولي” و “الشيخ” و “مقام”. وتفيد المصادر التاريخية، العربية والأجنبية، أن التقاليد المرتبطة بهذه المقامات تعود إلى قرون مضت. هناك شواهد تاريخية على زيارة المقامات في القرن العاشر.

جميع هذه المواقع مقدسة لدى المسلمين دون استثناء، يشمل التي وردت أسماؤها في التوراة مثل قبر يوسف وقبر راحيل والنبي صموئيل. ولكن منذ عام احتلال 1967 فرضت إسرائيل تمييزاً واضحاً لصالح المقامات التي تحمل أسماء توراتية. فقد حظيت باعتراف “ضابط هيئة الأديان” في جيش الاحتلال، تم ترميمها وحراستها وتحوّلت إلى مواقع حجيج جماهيري لليهود. أما المقامات المقدسة لدى المسلمين فقط فلم تحظَ باعتراف الجيش بل تُركت مشاعاً لخدمة احتياجات الاحتلال. هذه المقامات مغلقة أمام الفلسطينيين بكونها سجينة في مستوطنات ومناطق تدريب بالسلاح الناري أو ضمن محميات طبيعية، وحالة صيانتها متدنية جداً تعرّض استمرار وجودها للخطر.

إدراج المقامات في مناطق عسكرية مغلقة – مستوطنات ومناطق تدريب عسكري- معناه أن دخول الفلسطينيين ممنوع إليها. ففي المستوطنات تُقطَع فوراً إمكانية زيارة الفلسطينيين لدور العبادة ويُمنعون من الحفاظ عليها والحفاظ على تقاليد الأجداد فيها. وفي غياب جهة حكومية تمنع تقوّضها وتمنع أعمال التخريب والكتابات المسيئة، فهي عمليا مواقع محكوم عليها بالمحو والدمار. هذه هي حال المقامات أيضا في مناطق التدريب العسكرية المغلقة.

أما وضع المقامات في نطاق المحميات الطبيعية فيضعها تحت مسؤولية المكلّفين بالحفاظ على الطبيعة وليس على معالم وقيم التراث والعبادة الدينية. وبالتالي، في الممارسة العملية، يصبح موقع التراث الثقافي والديني موقعاً طبيعياً كونياً مفتوحاً للجميع فاقداً خصوصيته. تتم هذه الخطوة الاستعمارية على عدة مراحل: لفّها بالنسيان وإخراجها من التراث الفلسطيني بواسطة عدم ذكر اسم المقامات، لا على اللافتات التوجيهية في الشوارع ولا على الإشارات في المواقع؛ كما يجري حَرف مُحتوى المواقع وتسييسها بوضع اللافتات والنصب التذكارية تخليداً لذكرى ضباط ومستوطنين.

يقول تقرير “محسوم ووتش”: يتم استثمار ميزانيات ضخمة من قبل “هيئة الأديان” التابعة لجيش الاحتلال في المواقع الدينية والمقامات التي تنسب إلى شخصيات من التوراة، (على سبيل المثال قبر راحيل وقبر يوسف)، فيما وصول الفلسطينيين إليها محظور منذ فترة طويلة؛ أما دور العبادة الفلسطينية التي أقيمت تكريما للصحابة أو الأولياء المحليين في الضفة الغربية فيتم تركها عرضة للتخريب ويمنع وصول الفلسطينيين إليها بأوامر عسكرية.

فيما يلي قائمة جزئية بمقامات سجينة في مستوطنات او مناطق عسكرية أو محميات طبيعية أو مهملة من “الإدارة المدنية” وكلها معرّضة لدرجات مختلفة من الخراب: 1. مقام الشيخ بلال بن رباح 2. مقام الصحابي سلمان الفارسي 3. مقام ابو إسماعيل 4. مقام الشيخ محمد 5. مقام الشيخ غنام6. مقام القبيبات 7. مقام الشيخ أحمد القصاب 8. مقام أبو جود 9. مقام الشيخ عبد الله 10. مقام أم الشيخ 11. مقام الشيخ زيتون 12. مقام الشيخ عيسى 13. مقام ابن جبل 14. مقام الست زهراء 15. مقام النبي دانيال 16. مقام النبي يقين 17. مقام النبي نون 18. مقام النبي غيث 19. مقام الشيخ أبو ليمون 20. مقام الشيخ أحمد التبان 21. مقام النبي رباح 22. مقام الشيخ أبو زريد 23. مقام الشيخ زيد 24. مقام مجدوب 25. مقام علم الهدى 26. مقام الشيخ النبي ليمون 27. مقام الشيخ أبو يزيد 28. مقام الشيخ القطرواني 29. قبر راحيل 30. قبر يوسف 31. النبي صموئيل 32. الحرم الإبراهيمي 33. النبي موسى 34. مقام يوشا 35. مقام ذو نون 36. مقام ذو الكفل 37. مقام السبعين 38. مقام الشيخ المفضل 39. مقام أبو العيزي 40. مقام النبي متى.

من هنا، فإن من هبّ وامتشق الكلام الحاد وشعَرَ بالموسيقى في مقام النبي موسى تجرح مشاعره، يتوجب عليه مقارنة هذه الحادثة المحدودة بهذه المعطيات وهذه الحقائق التي تشرح واقعًا مُفزعًا ممتدًا على نحو نصف قرن. إن مواجهة مجموعة شباب أخطأت ربما في النتيجة ولكن من دون أية نوايا سيّئة، أسهل بكثير من مواجهة سياسة احتلال ومخططات استيطان ومشاريع إفراغ مقامات عديدة من المضمون وإخراجها من سياق الوطن. إن واجب السلطة الفلسطينية مواجهة هذه العُقَد الأخيرة وتوجيه الوعي نحوها، وليس ترك الأمور تنفلت في طوشة عموميّة ضمن سيرورة لن تنتج أيّ وعي نضالي، بل رواسب وأحقاد لا غير.

ثم أن هناك جهات وزارية في السلطة هي التي ستكون قد أخطأت حين أعطت التصريح لحفل تقول إنه خطأ، فلماذا هي الجهة التي تحقّق، بينما الفنانة الفلسطينية هي المعتقلة؟ وأين؟ ليس في معتقلات الاحتلال مثلا، بل لدى السلطة نفسها التي تقول عمليًا إن هناك ما يجب التحقيق فيه، وهي نفسها التي ارتكبت ما يستحق هذا التحقيق. هذا كثير!

لماذا تلخص هذه الحادثة الكثير الكثير من المشهد الفلسطيني؟ لأن المواجهة الموحّدة، المثابرة، والاستراتيجية، لمشاريع الاحتلال والاستيطان المتواصلة يوميًا، ما زالت نسبيًا مسألة مؤجلة في عُرف من يحكمون المشهد الراهن، من السُّلطتين، فيما لو قارنّاها بالمواجهات الفلسطينية-الفلسطينية الداخلية التي لا تعرف كللاً ولا مللْ.

هل من يبحث عن اقتراحات لمواضيع تستحق الغضب الموازي للغضب المشتعل هذا الأسبوع؟

* وثّق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) هدم أو مصادرة 389 مبنى يملكه فلسطينيون بين شهري آذار وآب 2020، أي بمعدل 65 مبنىً شهريا. أمرٌ يستحق غضبة.
*وثّقت دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية خلال الشهور التسعة الأولى من هذا العام تدمير الاحتلال والمستوطنين 4163 شجرة زيتون وسجل مركز أبحاث الأراضي تدمير 9660 شجرة زيتون خلال 2019. أمرٌ يستحق غضبة.

*وفقًا لجمعية الهيدرولوجيين الفلسطينيين، تبلغ حصة الفرد الفلسطيني سنوياً 150 متراً مكعباً لكافة الأغراض، فيما تبلغ حصة المستوطن من 500-600 متر مكعب في السنة لكافة الأغراض. السبب أن إسرائيل تسيطر على 80% من المصادر المائية في الضفة الغربية وتعطي الفلسطينيين نحو 20% بمعنى. أمرٌ يستحق غضبة.

*فشل المصالحة؟ تواصل الانقسام؟ استمرار تبديد الجهود والقوى والأهداف بسبب احتراب على السلطة؟ هل هناك حاجة لنستطرد؟ طبعًا أمر يستحق كل الغضب.

ويبقى أنه في الحالتين، في حادثة مقام النبي موسى، وفي سائر المشهد العام، مشهد المقامات المهدّدة، والبيوت المهدّمة، والزيتونات المقطّعة، والمياه المنهوبة، لم يستفد أيّ فلسطيني أيّ شيء. المستفيد وحيد، واسمه الاحتلال الإسرائيلي. تُعسًا، متى نستفيق؟!

“لم تتم إقامة حفل في مسجد!” (الفنانة الفلسطينية سماء عبد الهادي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *