“خَربَطَة” لا بد منها! بقلم د. جودت عيد – حيفا

مراسل حيفا نت | 07/09/2020

“خَربَطَة” لا بد منها!

د. جودت عيد – حيفا

يشكّل المسرح منصّة مهمّة لبلورة الذّهنيّة المجتمعيّة وحثّ عجلة تغيير منشود على صعيد ثقافيّ تربويّ ومجتمعيّ. المسرح هو المكان الذي من خلاله يمكن تجسيد التّماهي بين الفكر والطّرح وبين الجمهور لتصبح خشبة المسرح مرسمًا لملامح الحالة المجتمعيّة والثّقافيّة ومن هناك نصنع الثّورات والحضارات فـ- “أعطني مسرحا أعطيك شعبا عظيما!”.

“خربطة” هي مسرحية لا بد منها! فانّها تشكّل طرحًا جريئا يحاكي وعيَنا وإدراكنا كوسيلة فنيّة للتّعبير أملًا في التّأثير. لقد كانت التّجربة مميّزة بالنّسبة لي حين شاهدت النّص الذي كتبتُه، حول العُسر التَّعلُّمي، يتجسّد على خشبة المسرح بطريقة متقنة ولافتة للعين، فسكنتني حالة من الفرح والرّضى خلال العرض التّجريبي على مسرح مركز محمود درويش الثّقافي في النّاصرة، انتاج مركز يلا للثّقافة والفنون وبدعم من وزارة الثّقافة وبلديّة النّاصرة.

لقد كانت كتابة المضمون بالنّسبة لي مهمّة متقطّعة لكن مستمرّة لسنوات، مراجعات وتعديلات واستشارات مهنيّة لنقل الصّورة الأقرب لتجربة طفلة مع العُسر التعلّمي وطريقة تعاملها وتعامل المحيط معها. على مدار ستّة أعوام تجوّل النّص في عدّة محاور ومسارات ومرَّ بتغييرات في المضمون والمبنى حتى وصل الى الصّيغة النّهائيّة هذا العام (2020) ليرى النّور على خشبة المسرح كعمل فنّي جذّاب مع رسالة مُلحّة للجميع.

نواجه في مجتمعنا قضايا شائكة وحسّاسة التي لا تجد المساحة الكافية من ناحية طرح او اهتمام من قِبل المؤسّسات أو السّلطة، فيتجنّد المسرح والقلم لتسليط الضّوء على تلك القضايا لاسماع صوت مباشر وغير مباشر من أجل تغيير منشود. من الضّروري طرح القضايا والتعامل مع خصوصيّتها بشكل حقيقيّ وواقعيّ وليس بالضّرورة عرض “مشكلة وحلّ” كمعادلة سحريّة، إنّما التّركيز أكثر على عرض تجربة حياتيّة واقعيّة خاصّة من وجهة نظر ومشاعر الطّفل، اذا كان العمل يحاكي عالم الطفل، الذي يمرّ بتلك التّجربة لتتماهى مع التّجربة العامّة، وتحثّنا على ادراك السّلوك الفرديّ والمجتمعيّ الموجود مقابل المرغوب.

هناك دور للكاتب في مسيرة التّنشئة الاجتماعيّة بمفهوم نقل الثّقافة والقضايا الفكريّة المجتمعيّة الى النّاس مع الحفاظ على الحالة الادبيّة والالتزام بكل معايير الأدب الفنيّة، وخاصّة أدب الأطفال من حيث اللّغة والمبنى والمضمون والاسلوب الذي يتناسب مع عالم الطّفل ولا يعتمد الموعظة ولا التّوبيخ ولا الاحراج أو التّخويف، انّما الحثّ على التّفكير والتّحدي وتمكين الشّخصية وايمان الفرد بذاته وقدراته.

حين تعتمد التّنشئة احترام الذات والآخر وتتبنّى البحث والرّقابة الذاتيّة والقناعة والتربيّة النّاهضة لتطوير القدرة الشّخصيّة، من شأنها أن تسهم في النّهوض المجتمعي وفي تطوير طرق التّعامل مع العديد من القضايا الشّائكة في مجتمعنا كأقليّة وطن فلسطينيّة في اسرائيل، التي تعاني من تهميش واهمال سياسيّ ومجتمعيّ، ينعكس بشحّ الميزانيات والامكانيات المتاحة للفنّ والادب والمسرح ومرافق عدة تجعل من مجتمعنا عرضة الى التّهالك الذّاتي ضمن سياسة “اخماد حرائق” دون الاكتراث او الاهتمام الفعلي بقضاياه أو بروايته.

رقيّ الحُلّة المسرحيّة التي خرج بها هذا العمل “خربطة” هو عامل مهم وأساس من أجل جذب المُشاهد وحثّه لتذويت الفكرة ونقل رسالة اليه بطريقة فنيّة ذكيّة. هذا الأمر انعكس في المسرحيّة “خربطة”، من خلال مستوى التّمثيل لدى الممثّلات سهى ربيع، ونوار خليلية، وأنغام سويطات اللّاتي أبدعن في تجسيد الشّخصيّات المختلفة واستطعن أن يلبسن كل دور بمهارة، والانتقال من شخصيّة الى أخرى ومن مشهد الى آخر بشكل ذكيّ، ما ساهم في انسجام العرض مع النّص المكتوب وتجسيد ملامحه بشكل موفّق. كذلك الدّور الكبير الذي لعبه الاخراج في خلق جوٍّ مغاير للمسرح التّقليدي حين تبنّى المُخرج فؤاد عوض الكثير من العناصر التقنيّة والفنيّة التي تحتّم بعدًا ابداعيّا باختياره، من ناحية سيرورة المَشاهد وفق الحالة المسرحيّة دون المسّ بمضمون النّص، وكذلك ديكور المسرح واختيار الالوان والاضاءة والملابس والصّوت وعمل التقنيّين والفنيّين التي جميعها تجعل من العمل متميّزا، مثلا، ان تكون مقاعد الدّراسة طابات مطاطيّة، واللّوح المستعمل للعرض هو مجسّم شجرة تتدلّى منها الأحرف الأبتثيّة وغيرها. كل مركّبات المسرحيّة تلعب دورًا في خلق حالة ثقافيّة شاملة ومتكاملة تنسجم مع النصّ وبالتّالي يكون دور مركزيّ لطريقة الرّبط بين كل هذه المركّبات من خلال الموسيقى التي تجعل من تجربة المُشاهد حيّة من خلال التّفاعل مع أحداث المسرحيّة. لقد أضفت موسيقى الفنّان معين دانيال، رونقًا متميّزا ومختلفًا الى أجواء المسرحيّة مما يدعوك الى التّفكير والتّماهي مع كلّ مراحل العرض.

لذلك فإنّ العمل المسرحيّ النّاجح هو الذي يستطيع توظيف المركّبات المختلفة لبناء حالة فنيّة أوّلا وثم نقل رسالة للمُشاهد والحثّ على التّغيير الفكريّ المجتمعيّ، هذه الحالة ترتقي بالعمل الثّقافي وترتقي بالطّرح. وكَم نحن بحاجة الى “خربطة”، ولا بدّ منها، على كافّة الأصعدة للحثّ على تغيير من أجل نهضة مجتمعيّة شاملة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *