ما بين “الجميل” و”الجليل”… رشدي الماضي

مراسل حيفا نت | 22/07/2020

ما بين “الجميل” و”الجليل”…

رشدي الماضي

“إنَّ عمل الفنّ هو صُنع التَّأثير، وليس تسجيل الحقائق والوقائع”… انطلاقا من مقولة النَّاقد وليم مور، يتحتَّم علينا أنْ لا نكتفي بتسجيل المصطلح على سبيل التَّثاقف والمَعْلَمة فقط، بل يجب أن نَسْتَكْنِهَ المعاني والدلالات ككلّ مصطلح التي تحفظ وتحافظ على خاصّيّاتِهِ الأَساسيّة، وهو ما يُمكننا إلى التعرّف على أشياء جديدة، في عالم مترع باذخ في الأمور المختلفة…

 

أُسجِّلُ هذا بهدف التَّأكيد على أنَّ مفهوم المصطلح يخضع لتغيير دلالي، تدريجي ودقيق، ويُدخلنا في كلّ مرّة إلى نظام جديد، وقد أشار إلى ذلك النَّاقد والمفكِّر ثودروف حين قال: “إشْكالية المُصْطلح ما زالت قائمة إلى يومنا هذا”.

أوردتُ هذه الحقيقة على سبيل البداية لأَفتح بابا ألِجُ منه للحديث عن “الجميل والجليل”… فكما هو معروف أنَّهُ إذا كان “الجميل” هو ذلك الشَّيء أو الموضوع الذي يدفع تأمّلُهُ بصريّا أو ذهنيّا إلى المسرَّة، فإنَّ “الجليل” هو المستوى الأكثر سًموّا ورِفْعةً وربّما تعقيدا أو غموضا.

فقد رأى العالم شوبنهاور، أنَّ الجميل كمفهوم مرتبط بمعنى الدَّلالة، فكلّما ازداد نصيب الموضوع الذي تُعالجهُ الفنون من الدّلالة ازداد حظَّهُ من الجمال…

أمّا “الجليل” الفنّي فلا يكتفي بإثارة اللّذة الجماليّة في حالة تأمل هادئ وإنتاج أعلى حدّ ممكن من الدّلالات، بل إنّه يخلق حالة من الإثارة والاستفزاز للذّهن يجعل العلاقة بين المُتلقّي (كذات) والعمل الفنّي (كموضوع) علاقة متوترة… وعليه، “فالذّات في حالة إدراكها الموضوع “الجميل” تكون في حالة هدوء، بينما هي لا تبلغ هذه الحالة من الهدوء وهي في وضع تأملها “الجليل”، إلّا بعد مقاومة وصراع عنيف، لأنّ مثل هذا التَّأمّل يخلق لدى الذّات حالة من التَّهديد والاستثارة… وهو ما نلمسه في قصائد جلال الدّين الرّومي”…

إذا… “الجليل” يفرض على المتلقي عادات مغايرة للتلقّي، وفي حالة عدم تزوّده مُسبقا بما سيخلقه “الجليل” ينتج لديه شعور بعدم الارتياح المقرون بعدم الفهم السَّريع والتأمّل الهادئ…

وهذا ما جعل العلاقة بين “الجليل” والمُتلقّي علاقة مقاومة… لأنّ “الجليل” يحمل على التّشكيك بالمستقرّات المعرفيّة وافتراض معارف مغايرة تُقلق المتلقّي وتحمّلهُ مسؤوليّة البحث والتَّحليل لإدراك قيم جديدة قد لا تتوافق مع ذائقته ومزاجه العام ولا تتّفق مع القيم الموضوعيّة السَّائدة… نقول هذا مع عملنا أنّ تخطّي المساحة المتاحة والمألوفة تجعلنا نُلامس حدود “الجليل” وننتج الجمال الفنّي ونرتقي بالذّات والموضوع معا…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *