إفرحي يا بيت لحم…!

مراسل حيفا نت | 13/01/2020

د. منعم حدّاد

وعاقب الله بيت لحم بالمحل على عهد القضاة.

ونزح أهلها وتفرّقوا وتشتّتوا…

وعبروا النهر وراحوا يلتمسون الزاد والكلأ في الصحراء وعلى تخومها.

ومضت سنون، فبقي هناك من بقي وعاد من عاد…

ومرّت القرون وولدت في بيت لحم يا سيّد!

ولدت في المذود، في المغارة.

وها هم يحوّلون ميلادك إلى طقوس ليست من عالمك أنت.

وها هم يحوّلون مجدك إلى تماثيل ودمى بلاستكية، وها هم يتاجرون بالمذود وبالمغارة!

وليس هذا بدين!

وأصبح المنتفعون هم مجوس هذا العصر، وهم هيرودسه، يقطعون رؤوس منافسيهم دون تردد ولا هوادة.

تتفتّق عقولهم المريضة وأفكارهم الآسنة عن أساليب شيطانية للتكسّب والارتزاق، وسرعان ما يحيلونها طقوساً وممارسات وعبادات، يؤازرهم في ذلك شراذم من أدعياء اسمك، مرتزقة يتكسّبون ما تسنّى لهم أن يتكسّبوا!

وأنا لست قلقاً طبعاً!

لست قلقاً لأنك أسمى من كلّ هؤلاء وأعظم!

أسمى أكثر مما يدركه العقل، وأعظم أكثر مما يحلم به العالم…

ألا، فليولد طيفك مجدداً يا سيّد!

أمّا بيت لحم فلم تعد بيت لحم يا سيّد!

قالوا ذات يوم:”وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا لأن منك يخرج مدبّر يرعى شعبي اسرائيل”.

أما اليوم فهي الصغرى، بل صغرى الصغريات…

ليس لأن هذه مشيئتك، لا!

فأنت أحببت بيت لحم وفضّلتها على سائر المسكونة وغير المسكونة!

أما المذود فلم يعد مذوداً!

والمغارة لم تعد مغارة…

وأضيفت أشجار غريبة عجيبة!

وبنيت معالف عوضاً عن المذود.

وسُدَّت الريح لكي لا تلج في مدخل المغارة…

وذهبت الريح لتبحث عن المغارة فلم تجدها…!

ولا أدري، هل باعها منتفعون؟

أم هل جرفتها جرّافة؟

أم سُدّت بالإسمنت المسلّح؟

أم زلزلت الأرض فأصبح عاليها واطيها؟

بحثت أنا أيضاً عنها، وما زلت أبحث!

 لعلّني أجدها فأدلّ الريح على طريقها!

فأنا بلا المغارة ضائع ضالّ تائه يا سيّدي!

ولست أنا وحدي كما أعتقد… بل جميع الذين يحبّونك بحقّ وحقيق…

جميعهم ضالّون ضائعون تائهون بدون المغارة.

وإن استعاضوا عن المغارة بشبيهة أو مماثلة لها، فماذا عن النجم؟

هل سيجدون له بديلاً أيضاً؟

النجم هدى المجوس وأتى بهم من بلاد المشرق!

وهل تدري ماذا حلّ بالمشرق الذي أتى منه هؤلاء يا سيّد؟

وهل ما زال هذا المشرق مشرقاً؟

وهل ما زال في الأرض مجوس؟

ألم تدُسْهُ سنابك خيول حديدية؟

ألم تدمي قلوب أبنائه سهامٌ نارية؟

ألم تخنق نجومَه الراجماتُ والقاذفات؟

ألم تحرقه الحمم؟ ألم…؟ ألم…؟

ولم يبق ما يسلي (كما يقول أبو ماضي) غير الكاس؟

فلندع للناس ما للناس، ولنعاقر الخمرة، إذ لم يبق غير الكاس والطاس.

فربّما الكاس هي درب الغد.

لكنهم اتّهموك حتى في الكاس!

اتّهموك وزعموا زوراً وبهتاناً أنّك شجّعت على الكأس!

بحثت عن ذلك في كلّ أسفارك فلم أجد فيها أيّة أثر للحثّ على الكأس!

بل وجدت عكس ذلك!

وجدتك تنهى عن معاقرتها وتحذّر منها!

ووجدت أيضاً كيف قمت بأولى عجائبك، لكن لم تكن تلك خمرة هذه الأيام المفقدة الوعي، الممزوجة بالكحول القاتل.

بل كانت ابنة الكرم النقية التي طالما شكرنا بواسطتها الله الخالق على تكرّمه علينا بمواسم خير جديدة، تماماً كما نقول عند جني البواكير.

أما بعض الأشقياء فحاولوا أن ينسبوا إليك ما لم تقله ابداً!

ليعللوا سوء تصرّفهم.

وليقوننوا شذوذهم.

وليبرّروا نهمهم.

وتبّاً لمن يحاول الحدّ من وهج الشمس، فهو أضعف وأذلّ من أن يفعل ذلك يا سيّد!

أترى الحال الآن يا سيّد؟

حال بيت لحم وكلّ “البيوت” الأخرى؟

ظلام دامس وبكاء وعويل وصرير أسنان.

وضيق وشدّة وضنك.

وترى من القائل “ما جئت لألقي سلاماً على الأرض، بل جئت لألقي سيفاً على الأرض”؟

ها هو السيف يتراقص جذلاً على التلال والجبال.

وفي السهول والأودية.

والمصيبة يا سيّد أن لا صوت صارخ لا في البرية ولا في غيرها.

أو، أو أن صوتاً قد صرخ فعلاً لكن أحداً لم يسمعه، لأنّه ضاع في جلبة آلة السكّة وفي ضوضاء طابعة “البنكنوت”.

ورغم ذلك…

رغم ذلك افرحي وتهلّلي وابتهجي يا بيت لحم…

افرحي لأن موبقات ألفي عام لم تقضِ عليك!

لا ريب أنها نالت من عزيمتك وقوّست قناتك.

لا شكّ أن ما لحقك من أدران الألفي عام شردّ بنيك من تحت جناحيك.

لكنهم لم يضيعوا في مجاهل التيه.

ولم تلتهمهم العواصف.

ولم تفترسهم الغيلان!

ركبوا البحر، وحلّقوا في الفضاء عالياً، وحطّوا في مشارق الأرض وفي مغاربها.

وظلّت بيت لحم المرساة التي يلقون بها في عرض اليمّ الهائج لتثبت أقدامهم حيث هم.

تسلّقوا القمم وارتقوا الذرى وغرزوا راياتك في قلوب الجبال والبحار والغربة!

ورفعوا اسمك عالياً تحت كلّ سماء وفوق كلّ أرض!

فكافئوك خيراً بخير!

وحفظوا أمومتك كما رعيت بنوّتهم!

فطوباك يا بيت لحم.

وافرحي وتهللي وابتهجي يا بيت لحم.

لأنّك أعطيت الدنيا قديماً كما أعطيتها حديثاً ما لم تعطه مدينة أخرى سواك!

أفلا يحقّ لك والحال هكذا أن تتيهي خيلاء رغم ما أنت فيه؟

أجل، من حقّك!

ويقيناً سيشرق نور جديد عليك!

وتستطع شمسك ثانية!

فافرحي يا بيت لحم.

وابتهجي.

وتهلّلي!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *