ليلة الميلاد…!

مراسل حيفا نت | 08/12/2019

ليلة الميلاد…!

د. منعم حدّاد

لم يعرف أحد لماذا “صدر أمر من أغسطس قيصر بأن يكتتب كلّ المسكونة، وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سوريّة. فذهب الجميع ليكتتبوا كلّ واحد إلى مدينته”، والاكتتاب السلطوي لا يجرّ وراءه الخير في الغالب، لأن الناس يدعون الله على الدوام أن يجنّبهم “الحاكم والحكيم”، لكن الأمر أمر والسلطان سلطان، فكم بالحريّ إذا كان السلطان قيصر رومة العظيمة، وهي في أوج مجدها؟

وامتثالاً للأمر القيصري توجّهت الأمّ الرؤوم لكي تكتتب في “مدينة داود التي تدعى بيت لحم”.

في تلك الليلة تمّ استنفار الجند السماوي بأسره لينفّذ مهمة إيصال “البشارة” إلى مستحقّي الاستماع إليها، وانشغلت طبقات الملائكة على اختلافها بالإعداد للحدث العظيم، وأُرسل الرسل ليأمروا الشمس والقمر والنجوم لتنير النهار والليل ترحيباً بالفرح الآتي، وتمّ لجم العواصف الضارية، وتقييد حركة البروق والرعود، وإيقاف مركبات الريح عن سفرها المجنون.

في تلك الليلة، ليلة الميلاد المجيد، عزفت أوركسترا الموسيقى القيصرية “مارشات” النصر ترحيباً
(حارّاً) بوصول ركب أغسطس العظيم إلى الفوروم ثمّ إلى الكوليسيوم، يرافقه كبار روما وعظماؤها، وضيوفها القادمون من أطراف الإمبرطورية إلى روما يحملون هداياهم الثمينة ليقدّموها للقيصر تأكيداً لإذعانهم وقبولهم العيش الذليل في ظلّ روما الغاشمة.

ولكي يحتفي بهم القيصر بشكل “حضاريّ”، دعاهم في تلك الليلة إلى الكوليسيوم ليعرض أمامهم بعض سجنائه يلاقون حتفهم بين أنياب ومخالب الوحوش الضارية التي أُرغموا على مصارعتها، عزّلاً دون أي سلاح…

في تلك الليلة نفسها آوى أثرياء بيت لحم إلى فراشهم الوثير بعد ليلة ليلاء عاقروا خلالها ما شاؤوا أن يعاقروا، ليس ولعاً بالشراب، بل بحثاً عن الدفء الهارب الذي يطارده برد جبال اليهودية القارص.

في تلك الليلة لم ينم هيرودوس، كان يسكر ويعربد ظانّاً أن العالم كلّه في قبضته، وتكفي كأس مترعة واحدة لتفقد المرء صوابه وتصوّر له الأحلام حقائق، فيشعر كأنّه القائل:

إذا سكرت فإنني ربّ الخورنق والسدير

وإن صحوت فإنني ربّ الشويهة والبعير!

في تلك الليلة نفسها ولدت الأم الرؤوم الطفل يسوع و”قمّطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل”، ولا يذكر لنا أحد إذا كان الطفل الرضيع قد بكى في تلك اليلة أم لا، ومن الجائز أنّه فعلاً بكى، لأن بيت لحم تُبكي قاصدها، إما حزناً وإما فرحاً وإمّا برداً، وحالما تطأ قدماه ثراها تنهمر الدموع من عينيه.

فالسيّدة العذراء لم تجد لها مكاناً في المنزل لتنزل فيه، ربّما ليس لضيق في المنزل، ولا لأن أثرياء بيت لحم قصدوا المنزل في تلك الليلة ليسهروا حتى الصباح مضيفين لآثامهم آثاماً جديدة، بل لأن العالم كلّه ملك يديه وتحت تصرّفه، لكنّه اختار المغارة ليولد فيها ليعلمّ الإنسان درساً ليته يفقهه!

وقد يستغرب بعض المترفّهين والمترفين الذين يعيشون العيش الرغيد كيف يقوى الإنسان على الولادة في مغارة أو كهف، لكن عجبهم سرعان ما يتبدّد إذا تنازلوا يوماً وقصدوا كهوف صحراء اليهودية ليروا بأم أعينهم كيف ما زالت بعض القبائل تعيش في كهف هذه الصحراء وفي الخيام وفي الأكواخ المسقوفة بألواح التنك والزنك حتى يومنا هذا، في قرّ الشتاء وفي هجير الصيف الحارق.

وما احتفى أحد من بيت لحم بميلاد الطفل يسوع، وعلى الأرجح أنّ أحداً منهم لم يعرف بميلاده، وربّما أن حاكم المدينة منعهم ليلتها من الخروج من منازلهم بحجج وذرائع واهية كخيط العنكبوت.

ويحدّثنا لوقا في “بشارته” قائلاً:”وكان في تلك الليلة رعاة متبدين يحرسون حراسات الليل على رعيّتهم، وإذا ملاك الرّبّ وقف بهم ومجد الرّبّ أضاء حولهم فخافوا خوفاً عظيماً، فقال لهم الملاك لا تخافوا فها انا أبشّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرّبّ، وهذه لكم العلامة: تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود، وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبّحين الله وقائلين: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة”.

الطفل يولد في المغارة، والملاك يهبط من السماء في جمع غفير من الجند السماوي ليبشّر بميلاد المخلّص، المسيح الرّبّ!

أليس غريباً أن يبشر الملاك الرعاة المتبدين ولا يبشّر وجهاء مدينة بيت لحم وزعماءها وأرستقراطيتها؟

ولماذا يا ترى اختار أن يبشّر الرعاة، أجل الرعاة المتبدين، دون سواهم من الناس؟

هل من الممكن أنه قام بذلك ليرسم طريق المستقبل أمام المتمثّلين بالمخلّص؟

هل أراد أن يعلّمهم أن يكونوا رعاة؟

لكنهم رعاة صالحون، حفظت أخلاقهم وسمت بها البادية!

وهل في هذا طعن أو غمز أو همز في الرعي والتبدّي أم في غيرهما؟

وأين هي الرسالة التي حملها الملاك والجند السماوي؟

أين رسالة السلام الذي لم يتحقّق؟

أين رسالة المسرّة المفقودة؟

وما الرسالة التي حملها المجوس؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *