حكايتي مع “ديوان فلسطينيّ” دالمان!

مراسل حيفا نت | 02/09/2019

د. منعم حدّاد

حكايتي مع “ديوان فلسطينيّ” حكاية طويلة، يبلغ عمرها عدّة عقود من السنين، إذ كانت المرّة الأولى التي قرأت فيها عن هذا الديوان في إحدى الصحف في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، ثمّ سنحت لي فرصة الاطّلاع عليه في أوائل الستينيات من القرن نفسه، في مكتبة الجامعة العبرية في القدس، حيث ألقيت عليه نظرة عجلى، فبدا لي للوهلة الأولى وكأنه مكتوب بلغة أعجمية، غريبة كالسنسكريتية، لم أعِ منها الكثير، وهكذا قدّر له أن يعود إلى غياهب النسيان لسنوات أخرى، بالنسبة لي…

و”التقيت” بالديوان مرّة أخرى في أواخر السبعينيات، حيث كنت أبحث آنذاك في جميع المكتبات المعروفة في البلاد عن كل ما نشر عن التراث الشعبي العربي عامّة، وعن التراث الشعبي الفلسطيني خاصّة، أو أنّ له علاقة بأيّ منهما من قريب أو من بعيد.

وتبيّن لي هذه المرّة أن لغته التي بدت لأول وهلة أعجمية غريبة كالسنسكريتية ليست مستعصية ولا مستغلقة مستحيلة الفهم قطعاً، وأنّه من الممكن فكّ رموزها واستجلاء غوامضها واستكناه خوافيها بجهد أقلّ بكثير من الجهد الذي بذله شامبليون في فكّ رموز اللغة الهيروغليفية…

وأدركت أنّ أمامي كنزاً ثميناً، وعلى جميع الأصعدة والمستويات وبكل المعاني والمفاهيم، كنز لا يقدّر بثمن، فهو كتاب من أقدم كتب التراث الشعبي الفولكلورية التي تعنى بالتراث الفولكلوري الغنائي الفلسطيني، محلياً، وإقليمياً وعالمياً، وهو كتاب نادر، موغل في القدم، بالنسبة إلى كلّ الكتب التراثية والفولكلورية الأخرى على الأقلّ، ويثبت عراقة تراثنا وأصالته واستمراريته، ويفنّد كل مزاعم كلّ من يحاول الطعن فيه والنيل منه، ويدحضها!

وقرّرنا يومذاك إعادة الكتاب إلى أصوله العربية، وواجهتنا عقبات كأداء، فالكتاب مكتوب بحروف ألمانية وبلغة عربية عامّيّة محكيّة، وبلهجات محلّيّة متعددة، شملت اللهجات المحلّيّة في المدن والأرياف ومضارب البدو في مختلف أنحاء فلسطين والأردن وسوريا ولبنان… والفروق والاختلافات بين هذه اللهجات ليست بالقليلة، ولو استعان المرء بكل القواميس والمعاجم التي في متناول اليد فلن يفلح في سبر أغوار غريب هذه اللهجات جميعه، وقد يبقى من غريب هذه اللهجات ما هو ليس مفهوماً، كما أن تدوين الأغاني كان صوتياً سمعياً لفظياً، وكذلك كتابة النصوص، إذ أن الكاتب كان يدوّن ويسجّل وبالحروف الألمانية كما يسمع، وقد نجد جملة كاملة أو شطراً كاملاً قد تداخلت فيه الألفاظ والكلمات والحروف، واستحال تقطيعها إلى مهمة ليست باليسيرة، وتغيير مكان القطع ولو بحرف واحد يكاد يقلب المعنى رأساً على عقب أحياناً!

كما نجد اختلافاً واضحاً أحياناً وعدم تناسق بين العنوان الذي اختاره دالمان (مؤلف “الديوان”) لأغنية ما وبين مضمون تلك الأغنية، ربّما لأن من شرح له النصّ أو فسّره أو ترجمه له  لم يُحسن ذلك ولم يفلح فيه، أو أنّ هذا المستشرق الكبير، ورغم دقّته وعظمته، لم يفقه تماماً ما شرحوا له، أو أنّ اختياره للعناوين لم يكن موفّقاً دائماً، مما اضطرّنا إلى اختيار عناوين جديدة لبعض الأغاني القليلة، لتتناسب مع المضامين الأساسية لتلك الأغنية!

والمقدمة الضافية التي وضعها دالمان للديوان وكذلك الملاحظات والهوامش مكتوبة كلّها باللغة الألمانية، ولم يفلح عدد من المترجمين المحترفين المعاصرين في فكّ رموزها وكشف أسرارها…

وعندما أبدى “مثقّف وطنيّ” يجيد الترجمة من الألمانية – كما قال – استعداده للقيام بهذه المهمّة كدت أطير من الفرح، وأبديت استعدادي حتى لتعويضه عن تعبه… وأسرعت أسلّمه كلّ ما لديّ لننجز الكتاب معاً، وما هي غير مدّة قصيرة حتّى راح هذا “المترجم المثقّف الوطنيّ” يحاول أن يتاجر بالكتاب وبالقضية مثله مثل تجّار آخرين من تجّار الوطنية الذين تعجّ بهم بلادنا، وأن يثري من وراء ذلك، وأن يبيع بالكتاب – وبنا – ويشتري…

ولم يبقَ أمامي بدّ من تحمّل العبء وحدي، فقمت بإعادة نصوص الكتاب إلى أصولها العربية، متوخياً الدقة والحذر طاقتي، مضطرّاً إلى إدخال بعض ما اقتضى من تعديلات على بعض العناوين، محافظاً على الترقيم الأصلي للصفحات، لتسهيل المهمة على من يرغب في العودة إلى الأصل الألماني، واستعنت ببعض الزملاء في تلخيص المقدمة الألمانية الضافية، وفي شرح الملاحظات والهوامش الألمانية الهامّة.

وبدأت رحلة البحث عن ناشر، أو عمّن يتحمّل تغطية تكاليف طبع الكتاب ونشره، وليكن له وحده الربح والريع كلّه، متنازلاً له عن كلّ حقّ من حقوقي في ذلك!

وبالفعل، لم يخب أملي أبداً، فحالما كنت أتوجّه إلى إحدى المؤسسات أو الجمعيات أو الهيئات الأدبية، الثقافية، التراثية، الوطنية المحلية الكثيرة التي تملأ البلاد – وليس إليها كلّها –  كنت أتلقى ردّاً إيجابياً مشجّعاً جدّاً، ويعد القائمين على الأمر برصد الميزانيات المناسبة، التي تبلغ أضعاف المطلوب لنشر الكتاب، الأمر الذي يعتبرونه عملاً وطنياً، ريادياً، عظيماً إلى آخر القائمة من نعوت وصفات…

وكنت أنتظر التنفيذ، وتمرّ الأيام والأسابيع والشهور، وأنتظر عاماً وعامين وثلاثة وأكثر، ولكن “لا حياة لمن تنادي” فينفرط عقد هؤلاء المتحمسين وتختفي آثارهم ويخرج الواحد منهم ولا يعود ولا تقف له على أثر…، وأصبحت كما قال أبو الطيب قاتله الله:

أصبحت اروح مثر خازناً ويداً

                                 أنا الغنّي وأموالي المواعيد!

وأحاول أن أذكّر هؤلاء الـ”كويفيريين”، تجّار الوطن والوطنية هؤلاء، ولم تكن تنفع الذكرى…

وتوجّهت يوماً إلى إحدى المؤسسات التي أقيمت خصّيصاً لمثل هذه الغاية النبيلة السامية، وأبدى القائمون عليها حماسهم الشديد للديوان، ووعدوا بنشره سريعاً، وسلّمتهم إياه وانتظرت…

وانشغلوا كما يبدو بنشر ما حسبوه أدباً، رغم أن لا صلة ولا علاقة له بالأدب، لا من قريب ولا من بعيد، وإنما قاموا بفعلتهم الشنيعة تلك نزولاً عند توصيات أسيادهم وأولياء نعمتهم، أو… استرضاء لـ”مُطعمي أفواههم”… فهم لا يفعلون إلا ما يشاء ويأمرهم به أسيادهم وأولياء نعمتهم و”مُطعمو أفواههم”، ولا يستحون بذلك ولا يخشون عاقبة الليالي، و”لا حياة ولا حياء لمن تنادي”…

وهكذا أصبح الديوان حبيساً في أدراجهم، وعلى مدى سنوات، وبلغ بهؤلاء حدّ رفض إعادة المخطوط إليّ، إلى أن قمت باتّخاذ بعض ما يجب اتّخاذه من إجراءات لحملهم على ذلك، وهددتهم بالمزيد…

وظلّ الديون ينتظر النشر…!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *