يا مسافر…!

مراسل حيفا نت | 30/07/2019

  يا مسافر…!

د. منعم حدّاد

عرف الإنسان منذ القدم متعة السفر فعشقها وركب المخاطر مسافراً في البرّ ومقلعاً في البحر وضارباً في بقاع الأرض، واشتهر رحالة كثيرون من العرب وغير العرب ومنذ أقدم العصور وحتى عصرنا الحالي، وخلد التاريخ أسماء المئات والآلاف منهم!

فمن خلال السفر يتعرف الإنسان على بلدان وشعوب وحضارات لم يسبق له أن عرفها أو حتى ربما سمع بها… يتعرف على عاداتها وتقاليدها وأزيائها ومناسباتها وأساليب حياتها وعلى أنماط بنائها وكنوزها واحتفالاتها وأفراحها وأتراحها…

وتطورت وسائل السفر، فغدت السفن أسرع مما كانت عليه في الماضي السحيق، ودخلت الطائرات المجال فقصرت المسافات واختزلت أوقات السفر، فالمسافة التي كان يحتاج الإنسان إلى شهور وسنوات لقطعها أصبح بالإمكان اجتيازها خلال ساعات قليلة، وأصبح بمقدور الإنسان أن يدور حول الكرة الأرضية بأسرها خلال أيام وربما حتى خلال ساعات، فيهبط هنا ويطير هناك، يمتع ناظريه بأجمل وأبهى ما تهفو الروح إليه ويعشقه الفؤاد.

وتغنى بالسفر كثيرون، فمن عبد الوهاب الذي شدا بـ”مسافر زاده الخيال…” إلى “يا مسافر…” إلى سواهما…

*   *     *

والهجرة غالباً ما توجهت خلال العصور من الشرق نحو الغرب، ومن الجنوب نحو الشمال، من أواسط آسيا صوب أوروبا، ومن أوروبا صوب أمريكا، ومن أفريقيا صوب أوروبا وأمريكا.

وتعددت أسباب الهجرة وتنوعت، فمنها الهروب من الكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وجفاف وقحط ومحل، فعلى سبيل المثال تسبب انهيار سدّ مأرب في اليمن و”الطوفان” الذي نتج عن ذلك في هجرة الشعوب السامية وانتشارها، كما علمونا…

ومنها الطمع في الثروات والكنوز التي في البلدان الأخرى، والتي كانت تدفع الملوك والقادة إلى الخروج على رأس حملات الغزو والفتح لاحتلال بلاد جديدة وضمّها إلى ممالكهم وممتلكاتهم…

ومنها حبّ للمغامرة وشغف بها إلى أبعد الحدود، وما إلى ذلك من أسباب ما زالت تسيطر على عقول القادة والزعماء حتى اليوم، حيث لم تتغير دوافعها، وإن تغيّرت أشكالها.

* *  *

وتحطّ الرحال ذات يوم في عاصمة الضباب، عاصمة الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس…

فالمملكة المتحدة، أو بريطانيا العظمى، حكمت ذات يوم قارات كأمريكا وأستراليا بأكملها تقريباً، واستعمرت بلداناً كثيرة في آسيا وأفريقيا، وأصبحت “ممتلكاتها” تمتدّ من مشارق الأرض إلى مغاربها، ومن شمالها حتى جنوبها، فلا تغيب الشمس عن هذه “الممتلكات” لأنها إذا غابت عن بلد أشرقت في نفس اللحظة على بلد آخر وسطع نورها عليه…

واعتبرت بريطانيا من أكبر وأعظم الدول استعماراً في العالم، حتى بدأ سلطانها يتقلّص، وشمسها تغيب وتغرب، ونالت الدول التي استعمرتها استقلالها إما بالثورات والحرب والقتال، وإما بالسلم والمفاوضات، وانتقل الحكم إلى السكان المحليين بعد أن كانوا عبيداً وأشباه عبيد لأزمان طويلة، قد تمتدّ إلى قرون.

وثأرت البلدان المستعمرة، وإن يكن بشكل غير مباشر، من مستعمريها الإنجليز، وربما أن المستعمرين الإنجليز جنوا ذلك على أنفسهم وجلبوه عليهم بأيديهم…

وذلك لأن بعض هؤلاء “الأسياد” عاد إلى موطنه الأصلي بريطانيا مصطحباً معه العبيد والخدم والحشم من السكان المحليين، سكان البلاد التي كان المستعمرون يعيثون فيها فساداً، وتناسل هؤلاء العبيد والخدم والحشم وتكاثروا وتحرّر نسلهم من ربقة العبودية وراحوا ينتشرون في بريطانيا العظمى التي لم تعد عظمى…

وأضيف إليهم عاملون كثيرون من المحليين الذين خدموا الأجهزة الحكومية في بلدانهم التي استعمرها الإنجليز ومن العملاء والمتعاونين مع المستعمِرين و”كافأهم” هؤلاء بإنقاذهم من غضب السكان المحليين فعادوا بهم إلى بريطانيا حيث منحوهم الجنسية واستقروا فيها وتناسلوا وتكاثروا.

كما أصبحت لندن خاصة وبريطانيا عامة محط أنظار الوافدين من دول آسيا وأفريقيا والعالم الثالث ومحجاًّ لهم يفدون إليها للاستشفاء والنقاهة والسياحة والاستمتاع والدراسة واللهو واللعب والتسوق.

وهذا شكّل نقمة “المحليين” وثأرهم من مستعمري بلدانهم، أو لعنة الاستعمار…

* * *

ولندن وبرمنغهام ومدن بريطانية أخرى تذكّر ببابل القديمة…

ففي بابل تنوعت لغات أهل الأرض وتشابكت… وقال الرّبّ :«… هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض».

لكن الله رؤوف رحيم، فلم يبلبل لغات البريطانيين بعد، لحسن الحظّ، وندعوه ألا يبلبلها…

ففي شوارع المدن البريطانية تجد أبناء الجنسيات المختلفة، وذوي ألوان البشرة المتباينة، من بيض وسمر وزنوج وأسيويين وأفريقيين وشرق أوسطيين وأوروبيين…وكلهم يسير في سبيله ويجري وراء رزقه ويتحدث بلغة البلاد التي أتى منها فتخال نفسك لسماع تلك اللغات في بابل تلك…

وتلمس بنفسك المعنى السامي للتسامح الديني الأمثل والأسمى ولطول البال والأناة…

ففي شوارع رئيسية ومراكز تجارية ترى مناضد ثبتت عليها مكبرات صوت تذيع القرآن الكريم، وطاولات توزع عنها كتب المصحف الشريف، وتوزع النشرات الإسلامية في هذا البلد المسيحي، وبمنتهى الحرية، فحرية العبادة والتسامح الديني يبلغان هنا مبلغاً قلما يبلغانه في أي بلد آخر! وتتذكر كيف تحاول السلطات هنا تحديد ارتفاع صوت الآذان، وكيف أن بعض دول الشرق الأوسط وغيره لا تتيح لأبناء الديانات التي ليست ديانتها الرسمية ممارسة طقوسهم وتقاليدهم وعاداتهم، وإن سمحت بذلك فبشكل جزئي فقط!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *