الجريمة دون العقاب: بانتظار القتيل القادم

مراسل حيفا نت | 23/05/2019

الجريمة دون العقاب: بانتظار القتيل القادم

رقيّة عدوي: مُدّرِسة في مدرسة المتنبّي

 

في سنتي الدراسيّة الأولى لنيل اللقب الأوّل، بحثتُ عن مساق اختياريّ، وقع نظري على مساق عنوانه:” الثورة الهجائيّة: سوريّة في المسرح والأدب”، ومن أبرز عناوين المقالات كان عنوان “الاستراتيجيّة المرفعيّة في مسرح محمّد الماغوط ودريد لحّام”، لم أفهم العنوان وقتها أو المقصود، ولكنّني كنتُ أعرف محمّد الماغوط ودريد لحّام عزّ المعرفة، فالتحقتُ بالمساق المذكور.  في المحاضرة الأولى، أسندَ المُحاضِرُ ظهْرَهُ على كرسيّه ووضع ساقه اليمنى فوق اليسرى، تفرّس في وجوهنا بعد أن تعرّف إلينا وأدار نقاشًا بسيطًا حول ما قد يحدُث في العالم العربيّ، ثمّ قال لنا وهو يشرح عن أهداف هذا المساق وغاياته: “سنستخرج من النصوص الأدبيّة والأفلام والمسرحيّات، السخط الذي أدّى إلى اندلاع ثورات الربيع العربيّ”… في المحاضرة الأخيرة سألنا من أين تأتي الأنظمة العربيّة بكلّ هذا البطش والجبروت؟ وكيف يتأصّل العنف وتتذوّت الجريمة في المجتمعات العربيّة؟ وما هي النصوص التي ستتمخض عن الربيع العربيّ؟ … وما بين المحاضرة الأولى والأخيرة فقد ظلّ مفتوحًا وغادرنا مقاعد الدراسة. حاولت الفنّانة السوريّة أمانة والي أن تُجيب عن هذا السؤال بواسطة تجسيدها لشخصيّة فريدة، وذلك ضمن سيناريو المسلسل السوريّ “نساء من هذا الزمن”، دراما اجتماعيّة معاصرة عُرِضت عام 2013 لأوّل مرّة. فريدة هي امرأة تُدير جمعيّة نسويّة، تقول عن نفسها بأنّها امرأة مكسورة وصامتة، قوّيّة ومتمرّدة تُصارع السرطان ولم تٌفصح عن سبب طلاقها الحقيقيّ إلّا في مؤتمر صحفيّ بعد مرور ثلاثين سنة، وفي معرض هذا المؤتمر قالت جملة على شاكلة الصرخة المُدويّة:” هذا المجتمع بحالة استعداد دائم لإنتاج طُغاة… رجال طُغاة… رجال طُغاة”. هؤلاء الطُغاة تصنعهم المجتمعات المأزومة ويصنعون هم بدورهم أزمات مجتمعهم، هي عمليّة تبادليّة قائمة بحدّ ذاتها، تجعل من المجتمع مسرحًا ضخمًا لصناعة الجريمة وتمثيلها.

كلّ فضاءات ومساحات مجتمعنا العربيّ ومؤسّساتنا التربويّة والتعليميّة وربّما بيتنا كذلك، على حدٍّ سواء، باتت مشاعًا للجريمة ومرتعًا خصبًا لضمان نموّها، بل وغدت مصانع تُصنّع المجرمين وتُصدّرُ الجريمة في كلّ آنٍ وحين، حتّى في شهر رمضان الكريم الذي يعجز عن تذويت قيم الصبر، التسامح، المحبّة والرحمة في نفوسنا وقلوبنا، ها هي الجرائم حتّى في شهر الرحمة تتغلغل وتفرض سطوتها حتّى النخاع في شتّى جنبات مجتمعنا وبين ظهرانينا، دون أن نملك آليّات أو ربّما رغبة بمنع الجريمة القادمة، كلّ شيءٍ يصيرُ عاديًّا، نأكل، نصوم، نشرب، ننام، نذهب إلى العمل، نضع إشارة أحزنني عوضًا عن اللايك على صورة أو خبر الجريمة ونُعيد الكرّة في اليوم التالي. في الحقيقةِ تشجّعتُ سابقًا فكتبتُ، ها أنا أُعيد ذلك وعلى رؤوس الأشهاد:” نحن لسنا بمجتمعٍ سويّ أو طبيعيّ؛ رُبّما نحنُ مُجرّد قبائل أو في أحسن الأحوال مجموعة من البشر، نلتقي معًا في الشوارع، المقاهي، المكاتب الحكوميّة والمدارس، نتفنّنُ في إلغاء بعضنا البعض، نقدُنا لا يكون بهدف الإصلاح أو التقويم وربّما التشجيع بل بهدف الهدم والتثبيط والنيْل من الآخرين وبدوافع واعتبارات ضيّقة وكيديّة، وما إن يُمسك أحدنا وظيفة ما أو صلاحيّة معيّنة حتّى نقول بصوت مكتوم مخنوق الله لا يحكِّم عربيّ بعربيّ، والاعتماد على مثل هؤلاء يكون هو الجريمة بعينها، أمّا من قام بتعيين أمثالهم مع علمه المسبق بنفاقهم وفسادهم، فهو مرتكب الجريمة المزدوجة في مجتمع يشربُ نخب الجريمة والفساد”.

الجريمة؛ مصطلح يحضر وبقوّة في الذاكرة الأدبيّة والعالميّة، وثيمة مركزيّة تجلّت في الأدب الروسيّ الذي فرض سطوته وحضوره عالميًّا، تمامًا كما تفعل روسيا اليوم، وذلك في عمل الأديب الروسيّ العبقريّ فيودور دوستويفسكي، في روايته واسعة الانتشار والشهرة “الجريمة والعقاب”، الرواية التي تكوّنت وتبلورت على وقع تجربة دوستويفسكي في أحد المعتقلات على خلفيّة سياسيّة أبقته رهن الاعتقال والسجن يقضي محكوميّته بين المساجين والمجرمين ليتعرّف عليهم عن قُرب. في هذه الرواية يناقش موضوع الجريمة وكيف يظهر الخير والشرّ وآليّة ارتباطهما بالجريمة من خلال تصوير ما يدور في لبّ ونفس المجرم من خواطر وأفكار حين يٌقدم على ارتكاب جريمته الشنعاء، علاوة على ردود أفعاله ودوافعه لارتكاب الجريمة سابرًا غور المحرّك والدافع الأساسيّ لرغبة القتل والتشفّي باعتبار أنّ المجرم شخصًا يتمرّد على الأخلاق. بطل دوستويفسكيّ يتخطّى كلّ الحدود الأخلاقيّة والاجتماعيّة ويرتكب جريمته ليظهر بلبوس المتفوّق والقوّيّ، في المقابل فإنّ العقاب كان اتّهام المجرم بالجنون، انفصاله عن بقيّة أبناء المجتمع والبشر، ثمّة حواجز تتساقط تباعًا بين المجرم وكلّ من حوله من أشخاص ومعارف بالتالي يفكّر مليًّا بالانتحار ووضع حدٍّ لحياته.

الجريمة هي واحدة من أبرز معضلات المجتمعات المعاصرة ولاسيّما إذا ارتبطت بمشاكل أخلاقيّة، نفسيّة ومشاكل اجتماعيّة وربّما كانت أحيانًا بدوافع دينيّة وتفسيرات اقصائيّة تجعل للجريمة كلمة الفصل في المجتمعات. ربّما يكون الأخطر في العصر الرقميّ الحديث وسطوة التكنولوجيا هو تصوير الجرائم بالبثّ الحيّ والمباشر، توثيق ذلك ونشره على الملأ ولذلك تأثيرات وانعكاسات خطيرة من أبرزها أنّنا بذلك نرتكب جريمة ثانية بحقّ القتيل، نقتل عائلته بذلك كلّ يوم آلاف المرّات، نعتاد صور الدمّ والقتل وبذلك تألف العين هذه المشاهِد، نحوّل القتلى لمجرّد صور وفيديوهات وعدد تسجيلات إعجاب وحزن عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ دون إثارة أدنى المشاعر الانسانيّة والنفسيّة جرّاء القتل والموت من جهة، ومن جهة أخرى نسلب القتيل قيمته النفسيّة نتعامل معه على أنّه مجرّد رقم لا كشخص له اسمه، حياته، كينونته، عمله، عائلته، مُحبّيه وحلمه.

يقول نجيب محفوظ على لسان أحد أبطال رواياته:” الخير لا ينهزم، والشرّ لا ينتصر، ولكنّنا لا نشهد من الزمان إلّا اللحظة العابرة، والعجز والموت يحولان بيننا وبين رؤية الحقيقة”. الهزيمة والانتصار يركّبان صور حياتنا، من أبرز مفاهيم البشريّة المكبّلة بقيود الزمن العاديّ، ربّما تتحكّم الجريمة بمفهوميّ الهزيمة والانتصار، وعليه لا هزيمة ولا انتصار، ما دام القاتِلُ والقتيلُ منّا. هي رغبة دائمة بفعل الخير الذي لا ينهزم مقابل سطوة الشرّ، وما بينهما ما أحوجنا لصناعة الإنسان، فلن تقوم قائمة هذا المجتمع دون نهوضنا وتعزيز الإنسان السويّ فينا لنعمل معًا من أجل بناء مجتمع متحضّر يقوم على سواعدنا كلّنا دون استثناء، لنقف معًا كالسدّ المنيع أمام مظاهر الجريمة وكافة أشكال العنف لنُقابلها بالصفح، التسامح، التقبّل، الاحتواء، التكافل، الإيثار، توسيع النقاط والمساحات المشتركة وتقليص الفجوات فيما بيننا فما يجمعنا أكبر بكثير ممّا له أن يُفرّقنا. هذه القيم لا يمكن أن تتذوّت في نفوسنا بمعزل عن شراكة جماعيّة تتمثّل بأن تأخذ العائلة دورها الرياديّ في التربية، وتحصين الأبناء بالتوازي مع دور المدرسة في التربية للقيم ومساهمتها في بناء طالب إنسان واعٍ ومستنير، بالإضافة لأهمّيّة أن تضع الأحزاب العربيّة مكافحة الجريمة والحدّ منها على أجندتها وجدول أعمالها، فالمسؤوليّة جماعيّة وربّما هو التقصير المشترك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *