مسرح الميدان والمسؤولية الوطنية

مراسل حيفا نت | 05/05/2019

مسرح الميدان والمسؤولية الوطنية

عفيف شليوط

منذ زمن طويل ومسرح الميدان لا يقوم بأيّ نشاط يُذكر، جمّد نشاطه كليًّا، يعاني من أزمة مالية خانقة، لم يحصل على شهادة إدارة سليمة من قبل مُسجّل الجمعيّات، الأمر الذي لا يتيح للمؤسسات الرسمية والدوائر الحكومية أن تقوم بتحويل أيّ دعم مادي لهذا المسرح. من ضمن هذه المؤسسات الداعمة، بلدية حيفا التي رصدت ميزانية سنوية لمسرح الميدان تكفي لتغطية نفقات تفعيل قاعات المسرح من إيجار وضريبة أرنونا وما شابه.

نتيجة للوضع القائم، وحتى لا يفقد الوسط العربي في حيفا هذا الإنجاز الذي حققه، التزمت إدارة بلدية حيفا بتحويل الميزانية لمؤسسة عربية في حيفا تعمل في مجال المسرح وتتمتع بإدارة سليمة وقادرة على تفعيل قاعات مسرح الميدان. يُعتبر هذا القرار من قبل إدارة بلدية حيفا خطوة هامة نحو المحافظة على الاستمرار في دعم مشروع قاعات المسرح لصالح الوسط العربي في حيفا. لكن هنالك عقبات وصراعات حول لمن ستحوّل ميزانية مسرح الميدان، من سيقوم بتحمّل مسؤولية هذا المشروع الثقافي الفني، ما هي آليات عمل المسرح البديل، وأسئلة أخرى طُرحت ولا تزال تُطرح من قبل هيئات ومؤسسات وممثلي جمهور للوسط العربي الحيفاوي.

لكن قبل البت في هذا الموضوع علينا أن نوضح بعض الأمور، ومناقشة بعض الطروحات التي تحاول أن لا تلغي استمرارية عمل مسرح الميدان الحالي. أولًا كلنا نحترم تجربة مسرح الميدان ونتمنى أن يجتاز محنته، ويعود ليزاول نشاطه المسرحي من جديد، ولكن هنالك فرق شاسع بين الواقع وبين الأمنيات. الواقع تمامًا عكس أمنياتنا، فكل الدلائل تشير أنّ مسرح الميدان غير قادر على الاسستمرار في نشاطه المسرحي، والاختيار هنا بين خطر تحويل هذه الميزانية لغير الوسط العربي، وبهذا سيخسر الوسط العربي هذا الموقع الهام والحيوي، ألا وهو قاعات مسرح الميدان. فالحل الوحيد هو إنقاذ هذا المشروع الثقافي من الاندثار، بواسطة دعم مؤسسة ثقافية مسرحية عربية حيفاوية لتستمر في مشروع تشغيل القاعات وتقديم الانتاجات المسرحية باللغة العربية.

وهنا أوّد أن أوضح للبعض، يجب أن لا نبالغ في تقييم دور مسرح الميدان في حركتنا الثقافية الى حد الهوس، ولا يكون هذا الاعجاب الى حد الانبهار، الأمر الذي يلغي دور المسارح الأخرى التي تقوم بدورها هي الأخرى في رفع شأن مسرحنا المحلي والنهوض بحركتنا المسرحية. والسؤال المطروح هنا، هل إذا توقّف نشاط مسرح الميدان، وإذا تفكك هذا المسرح واندثر، سنصبح بلا مسرح، بلا ثقافة. إن النشاط المسرحي كان موجوداً قبل نشوء مسرح الميدان، ومن البديهي أنه سيستمر حتى لو تم إغلاق مسرح الميدان. وهنا أنا لا أقلل من قيمة ودور مسرح الميدان، لكن المبالغة في تقييم دوره، وجعله الألف والياء، وهو المسرح الوحيد والأوحد، يتحوّل الى ظلم للمسارح الأخرى ونظلم بالتالي شعبنا وثقافتنا وكأننا غير قادرين على إنجاب مبدعين مسرحيين آخرين ليتابعوا المسيرة، فهنالك مسارح عربية في البلاد قدّمت أعمالاً مسرحية فاقت انتاجات الميدان من حيث المستوى الفني والابداع الأدبي، وحققت نجاحاً جماهيرياً ملفتاً للنظر، وحظيت بنقد فني مُشجّع وداعم ومن قبل أقلام لا يُستهان بها، فدعونا لا ننساق وراء مشاعرنا، الأمر الذي ممكن أن يؤدي الى تقييم الأمور بغير موضعها.

ثمّ دعونا نتحدّث بصراحة حول النهج الخاطىء الذي انتهجته إدارات مسرح الميدان المتعاقبة، الأمر الذي أوصلنا اليوم الى ما وصلنا إليه.

منذ أن بدأ البعض يكتب عن مسرح الميدان والأزمة التي يمر بها مسرح الميدان وهي ليست بجديدة، وأنا أتابع هذه الكتابات والنقاشات التي لم تخرج في غالبيتها عن اطار الذاتية المفرطة، فكل يريد أن يثبت بأنه الأجدر لإدارة مسرح الميدان، كاشفاً عيوب المدراء الآخرين ومتفاخراً بإنجازاته. وتمادى البعض في تحليلاته، معتبراً المسرح مسرحه، وأن الحركة المسرحية المحلية تبدأ منه وتنتهي عنده. وهنا أوّد أن أشير بأن المسرح العربي قبل أن يصبح اسمه الميدان، كان بمثابة حلم راود كافة المسرحيين العرب في البلاد، وتحقق هذا الحلم بفضل نضال ومثابرة المسرحيين والمثقفين ورجال الفكر العرب الذين لم يتوقفوا للحظة عن المطالبة بإنشاء مسرح عربي. ففي مطلع الثمانينات دعت المؤسسة الشعبية للفنون في حيفا بإدارة الشاعر سميح القاسم كافة العاملين في المسرح المحلي الى اقامة مسرح عربي قطري، وأعلن أنّ المؤسسة الشعبية للفنون رصدت ميزانية خاصة لهذا الهدف، إلا أن بعض المسرحيين وخاصة العاملين في المسرح العبري في تلك الحقبة أجهضوا الفكرة، وهم ذاتهم الذين سيطروا على المسرح العربي عندما توفرت الميزانيات بهدف توزيع الغنائم فيما بينهم. وكانت هنالك تجربة للممثلين المسرحيين المحترفين العرب في العام 1981 لإنشاء مسرح عربي بمبادرة الفنان الراحل راتب عواودة، وتوجه الممثلون العرب الى رئيس الدولة في حينه مقدمين له مشروع ميزانية لإقامة مسرح عربي، وتم تسجيل المسرح رسمياً كجمعية عثمانية، وباشر هذا المسرح بالعمل على مسرحية المهرج لمحمد الماغوط، إلا أن هذا المسرح لم يستمر نتيجة ظروف العمل الصعبة وتشتت الكادر الفني للمسرحية.

هذا الأمر يقودنا الى سيناريو الاستقالات المتعاقبة لمديري مسرح الميدان، فما أن كنّا نقرأ خبر استقالة مدير مسرح الميدان، ليعود سيناريو الاستقالات لمدراء مسرح الميدان المتعاقبين، هذا السيناريو الذي اعتدنا عليه، الى درجة أننا أصبحنا نطرح السؤال التقليدي بعد تعيين كل مدير جديد للمسرح، متى سيستقيل؟

فتم تعيين يوسف أبو وردة ومكرم خوري مديرين للمسرح العربي في اسرائيل (هكذا كان اسم المسرح قبل تغييره لمسرح الميدان) فور تأسيسه، وفي العام 1998 عُيّن فؤاد عوض مديراً فنياً للمسرح، ثم أعيد تعيين مكرم خوري مديراً للمسرح، ليتم من بعدها إعادة تعيين فؤاد عوض مديراً، ومن ثم تسلّم هذا المنصب سليم ضو، ومن بعده الفنان الراحل رياض مصاروة الذي استقال هو الآخر بعد فترة قصيرة.

من خلال هذه التغييرات نلاحظ ان ادارة المسرح ومجلسها العام كانا يدوران في فلك دائرة مفرغة، فما معنى إعادة تعيين مدير للمسرح بعد إدانة فترة عمله وتدوين ملاحظات لسوء إدارته للمسرح؟! ففي كل المجتمعات عندما يفشل إنسان في مهمة أوكلت إليه لا يتم إعادة تعيينه في ذات المنصب، إلّا أنّ إدارة مسرح الميدان ربطت منصب المدير بأسماء معينة، وأجمعت من حيث تدري أو لا تدري أنه لا يمكن الخروج من دائرة هذه الأسماء وكأن مجتمعنا لم يلد غير هؤلاء.

في ظل تخبط إدارات المسرح المتعاقبة، وفي ظل عدم نجاح أي مدير حتى الآن بإخراج المسرح من أزمته التي بدأت منذ ولادته، والهبوط المستمر بحجم الدعم الممنوح للمسرح نتيجة قصوراته، جعل المسرح في وضع تراجع مستمر بدلاً من التطور والتقدم. عندما بدأ المشروع يتبلور بقرار ودعم وزيرة المعارف والثقافة في حينه شولميت ألوني، في النصف الثاني من العام 1995، حيث رصدت الميزانيات لهذا المسرح، بدأت الاتصالات والاجتماعات التشاورية من أجل تحقيق هذا الهدف، وقد كانت في البداية تعقد الاجتماعات في مكتب الدكتور حاتم خوري في بلدية حيفا، وقد كنت من بين المسرحيين المشاركين في تلك الاجتماعات.

وفجأة وبقدرة قادر لم نعد نسمع شيئاً، وفوجئت مثلي مثل غيري بالسماع عبر وسائل الإعلام بإنشاء جمعية للمسرح العربي، وتعيين يوسف أبو وردة ومكرم خوري مديرين للمسرح. ومن هنا بدأت المشكلة، حيث بدأت المحاولات للاستحواذ بهذا الإنجاز لصالح فئة قليلة من المسرحيين والذين عملوا بفئوية ولاعتبارات شخصية ضيّقة، لا علاقة لها بمصلحة المسرح والحركة المسرحية المحلية، وهنا تم دق المسمار الأول في نعش المسرح العربي في اسرائيل الذي أصبح فيما بعد مسرح الميدان.

بدأ المسرح في العمل فقدم إنتاجاً مسرحياً ضخماً بهر المشاهدين والنقاد ولكن لم تتجاوز عروضه عدد أصابع اليد. وهنا كانت المشكلة الثانية التي واجهت المسرح، والسؤال المطروح هنا: ماذا نريد من هذا المسرح وما هي أهدافه؟ هل نشر الثقافة المسرحية في كافة المناطق ولكافة الأجيال في البلاد، أم حصر المسرح على نطاق جمهور نخبوي من المثقفين وعشاق هذا الفن؟!

فعندما تم إنتاج العمل الأول، لم يؤخذ بعين الإعتبار عدم توفر القاعات التي تلائم هذا الإنتاج المسرحي الضخم، وبالتالي وقعت إدارة المسرح في ورطة لم تستطع الخروج منها: لا تسويق لأعمالها  جمهورها محدود، الدخل الذاتي شبه معدوم، فكيف يمكن الخروج من هذه الأزمة؟! وبدلاً من استخلاص العبر والاستفادة من هذه التجربة، استمرت ادارة المسرح في انتاجاتها المسرحية الضخمة والباهظة والمرهقة لميزانية المسرح، ولم تعمل للحظة على عامل الدخل الذاتي، وبالأساس تسويق العروض المسرحية .

لقد سبق ونشرت مقالات عدّة عن تجربة مسرح الميدان، منها المقال الذي نُشر في جريدة “حيفا” في العدد الصادر بتاريخ 6 تموز 2012، فكتبت في حينه عن الاحتمالات التي توقعتها وكان أحدها إغلاق مسرح الميدان الأمر الذي لا نتمناه، وهذا التوقع سبق كل ما يتعلّق بالضجّة الاعلامية حول استهداف المسرح سياسيًّا. وفي المقال ذاته حذّرت من خطر استعادة بلدية حيفا للقاعات، الأمر الذي يتكرر اليوم، من خلال مماطلة إدارة البلدية في اتخاذ قرار واضح في هذه القضيّة.

هنا، وفي ظل الوضع القائم لم يبق لدينا إلّا اختيار الاتجاهات التالية للحفاظ على هذا المشروع الثقافي الهام. اولًا: الضغط على إدارة بلدية حيفا الإعلان عن مناقصة لتفعيل القاعات من قبل مسرح عربي في حيفا، لديه القدرة الادارية والمالية لإدارة المشروع، مديره الفني يحمل لقب جامعي، يتمتع بإدارة سليمة وتمنح حق الأولوية حسب عدد سنوات نشوئه. وهنا يجب التركيز على أمرين، الجسم الذي ستوكل له المهمة يجب أن يكون عربيًّا ومستقلًا ومركزه في حيفا. ثانيًّا: الضغط الجماهيري على إدارة مسرح الميدان الحالية أن تُخلي القاعات وتتيح لمؤسسة مسرحية عربية أخرى أن تدير شؤون هذا المكان، حتى لا يفقد عرب حيفا هذا الإنجاز الهام.

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *