الاستعمار الناعم وثقافة “Soap Opera”

مراسل حيفا نت | 21/04/2019

الاستعمار الناعم وثقافة “Soap Opera”

رقيّة عدوي: مُدّرِسة في مدرسة المتنبّي

كان ذلك في شهر رمضان من العام 2008، أيّام دراستي في الصفّ التاسع الإعداديّ، وشقيقي الذي يكبرني بعامٍ كان طالبًا في الصفّ العاشر الثانويّ، يتمتّع بشخصيّة قياديّة جذّابة، التف حوله الكثير من الطلّاب في المدرسة، تنبّه مدير المدرسة لذلك فخاطبه في الساحة ذات يوم، وعلى الملأ بعد أن صافحهُ:” شو يا عمّار الكوسوفي”، صافح أخي المدير وبادله الابتسامة وما إن ابتعد عنه، حتّى مال على واحدٍ من أصدقائه وسأله:” مين عمّار الكوسوفي؟”، فأجابه صديقه:” بطل مسلسل روح الورد التركيّ”. لمّا انقضى الدوام وعاد أخي إلى البيت، حدّثنا عن الموقف الذي حصل له وسألنا كذلك عن المسلسل الذي لم نكن قد شاهدناه من قبل، ونحن من أشدّ المتابعين للدراما العربيّة السوريّة، ولم ترُق لنا المسلسلات التركيّة يومًا، وبناءً على الموقف الذي حصل في المدرسة قرّرنا أن نشاهد حلقة من هذا المسلسل حين عرضها. إن لم تخُني الذاكرة، تسمّرنا في تمام الساعة الثامنة مساءً أمام شاشة “أبو ظبي الفضائيّة” وشاهدنا الحلقة المعروضة من هذا المسلسل المدبلج إلى العربيّة، بأصوات سوريّة ألِفناها في مقدّمتهم النجم السوريّ محمّد حدّاقي، إياد أبو الشامات وميسون أبو أسعد شقيقة الممثّلة والمنتجة السوريّة لورا أبو أسعد وهي واحدة من أهمّ الأسماء التي تقف وراء شركة الإنتاج السوريّة “فردوس دراما” ومقرّها العاصمة اللبنانيّة بيروت، وهذه الشركة تقف خلف انتاج وتسويق أهمّ المسلسلات التركيّة المدبلجة للعربيّة بأصوات سوريّة ولَكْنة شاميّة لصالح قناة أبو ظبي، وفي مقدّمة هذه المسلسلات مسلسل وادي الذئاب ذائع الصيت والشهرة الذي يُعتبر واحدًا من أطول المسلسلات في تاريخ الدراما التركيّة.

فكرة الدوبلاج في سوريّة لم تكن وليد اللحظة أو مقترنًا بغزو المسلسلات التركيّة واستحواذها على الفضائيّات العربيّة، بل يُذكر بأنّ المخرج السوريّ الراحل خلدون المالح (1938-2016)، الذي يقف وراء إخراج أهمّ أعمال العرّاب السوريّ دريد لحّام كمقالب غوّار وضيعة تشرين، هو أوّل من أنشأ استوديو ودبلج فيلمًا منذ سنوات السبعين، استلم بعده الراية المنتج الراحل أديب خير (1965-2013) الذي رحل إثر أزمة قلبيّة حادّة ومفاجئة، يُذكر أنّ حياة أديب خير القصيرة، المعروف باسم “ديبو” في الأوساط الفنّيّة، اكتنزت بإنتاج العديد من الأعمال المميّزة كضيعة ضايعة، كما وفتح المجال أمام الكثير من خرّيجي المعهد العالي للفنون المسرحيّة وهو صاحب فكرة إنشاء مسرح في معرض دمشق الدوليّ.  الدبلجة؛ مصطلح تلفزيونيّ، أصل الكلمة فرنسيّ Doublage، ويُقصد به تركيب أداء صوتي بديل للنصّ الأصليّ، يكون الصوت البديل بلغة مختلفة عن اللغة الأصليّة مع مراعاة التوقيت والأداء في المشهد والنصّ الأصليّ، حركات الدبلجة بدأت أساسًا لدبلجة الأفلام الهوليوديّة للفرنسيّة لصالح عرضها في دول المغرب العربيّ، هذه الأفلام كانت تستورد عبر موزّعين فرنسيين. سرعان ما انتشرت هذه الظاهرة واتّسعت في دول المشرق العربيّ، ولم تكن الدراما السوريّة بمعزلٍ عن تناول هذه الظاهرة في المسلسلات السوريّة حصرًا، ففي المسلسل السوريّ المعروف “الفصول الأربعة”، تناولت كاتبة السيناريو ريم حنّا في الحلقة 30 من الجزء الأوّل تحت عنوان “من لا يحبّ كاسندرا”، غزو المسلسلات المدبلجة للشاشات العربيّة وغزوها لعقول المشاهدين العرب وسطوتها الاجتماعيّة، وكاسندرا هو اسم لمسلسل فنزويليّ مدبلج للعربيّة الفصحى، أيّ أنّ المسلسلات التركيّة هي جزء من سلسلة طويلة لحركات دبلجة غزت صالوناتنا وسهراتنا، تفرضُ واقعًا اجتماعيًّا علينا لتُكرّس لاحقًا استعمارًا ناعمًا يختلف عن الاستعمار المباشر الذي ألِفناهُ.

عالميًّا انتشر مصطلح مسلسلات الصابون “Soap Opera” في إشارة واضحة إلى الهوّيّة الفنّيّة لمجمل المسلسلات التي انتشرت في الولايات المتحدّة وأوروبا منذ مطلع الثلاثينيّات من القرن العشرين، كانت تلك المسلسلات تحت رعاية شركات الصابون والمنظّفات، كانت تظهر إعلانات هذه الشركات خلال عرض المسلسلات عبر الشاشات التلفزيونيّة، ذلك لجذب انتباه ربّات البيوت، اللاتي كُنّ من أشدّ المتابعات لهذه المسلسلات. أمّا المصطلح أوبرا فهو للإشارة إلى الطابع الميلودراميّ لتلك المسلسلات، المبالغة في التعبير عن العواطف والانفعالات المختلفة، الثراء الفاحش، المناصب الاجتماعيّة البرّاقة والمرموقة. هذا وقد لعبت مسلسلات “أوبرا الصابون” المذكورة، دورًا سياسيًّا خلال الحرب العالميّة الثانية، تحديدًا عام 1941، حيث عرضت بريطانيا من خلال شبكة ” البي بي سي” مسلسلًا موجّهًا للأسرة في أميركا الشماليّة بهدف تشجيع التدخّل الأميركيّ إلى جانب بريطانيا التي تُعاني من ضغوط الحركة النازيّة وتقدّمها في أوروبا. ربّما تأتي الدراما التركيّة المدبلجة ضمن هذا الإطار، لتتعدّى ذلك إلى فرض واقع اجتماعيّ-سياسيّ جديد من خلال تكريسها للثقافة التركيّة، العادات والتقاليد، الطعام، تشجيع السياحة، تذويت اللغة، القوميّة والجغرافيا التركيّة على واقع مجتمعاتنا العربيّة إلى حدّ أن صارت تركيّا قِبلة للسياحة والسفر، الدراسة، التجارة والاستثمارات الاقتصاديّة. علاوة على ذلك، وعلى غير المتوقّع، في ظلّ الأزمة السوريّة والحرب الطاحنة فيها لم تُسجّل الدراما التركيّة أيُّ تراجع يُذكر، بل ازداد سوقها أكثر، إلى درجة أن تحوّل الملّفّ السوريّ إلى مادّة دسمة جدًّا تُغني الدراما التركيّة من خلال أحد أجزاء مسلسل وادي الذئاب الذي تناول القضيّة السوريّة وكذلك العراقيّة. يتحوّل هذا الواقع الاجتماعيّ-السياسيّ إلى تكريسٍ يوميّ للوصاية التُركيّة بنُسختِها المعاصرة على بلادنا ومجتمعاتنا عبر تقنيات فنّيّة-دراميّة تُكرّس لمفهوم آخر من مفاهيم الاستعمار بصورة ناعمة ومخفيّة مُخيفة.

هو الإعلام الذي يُجيّش الرأي العامّ ويُخدّرُهُ على طريقته الخاصّة، يجعلُ منّا ريشةً في مهبّ الريح. هو جهلُنا، استسلامنا وانقيادنا الأعمى، كسلنا وخمولنا وهواننا على أنفسنا أوّلًا، ليصدُق فينا قول جبران خليل جبران:” ويلٌ لأُمّةٍ تكثُر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين، ويلٌ لأُمّةٍ تلبس ممّا لا تنسجُ وتأكل ممّا لا تزرع وتشربُ ممّا لا تعصِرُ، ويلٌ لأُمّةٍ تحسَبُ المستبدُّ بطلًا وترى الفاتِح المُذلِّ رحيمًا، ويلٌ لأُمّةٍ سائسُها ثعلب وفيلسوفها مشعوذ وفنُّها فنّ الترقيع والتقليد، ويلٌ لأُمّةٍ مُقسّمة إلى أجزاءٍ وكلّ جزءٍ يحسبُ نفسه فيها أُمّةً”. ولا بدّ من استحضار الموقف الذي حدث في كندا، لمّا التقى أحد المغتربين السوريين بالفنّانة السوريّة الكبيرة منى واصف وقال لها:” سافرت من الشام من زمان، في ثلاث شغلات ما قدرت أنساهن؛ جبل قاسيون والجامع الأُمويّ وصرخة منى واصف بأسعد الورّاق”. هو الرهان الأخير على الذاكرة والتاريخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *