رُفِع العلم الأبيض على ظهر الكنيسة، وقُرع جرسها،

مراسل حيفا نت | 08/11/2018

بين ثنايا القصائد
تقرير: نداء نصير

وقف هذا الفتى الشجيّ عذب الكلام حلو اللسان أمام حشد من الناس يقول على مسامعهم: وقد سأل الحاضرون بعضهم بعضًا، من يكون؟ ابن من؟ وما عمره؟
لم يكن قد تجاوز الخامسة عشْرة من عمره، حين وقف للمرّة الأولى يخطب بالحشد ويلقي قصيدة نظمها هو بذاته:
“روحي يا روحي هالدهر خوّانْ
نسيتِ محبِّـتنا وماضينا
علَوْحْ صدري كاتِبلِكْ عنوانْ
ما بينمحى فيما لو نِسيتينا”
برعم 2

برعم
ويسألون من علّمَ هذا الفتى نظم الشعر والأدب والكلام؟ فيقول: “الأرض شو بتزرعو فيها بتطلِّع. هي أمّي الأمّيّة التي كانت تنظم الشعر وتدفعني على أن أحذو حذوها”.
إنّ لحظة واحدة وعن غير ميعاد يمكنها أن تهرس دماغًا وتغيّرَ مجرى الحياة ومجرى التاريخ. لقد كان وميضًا من شريط الذكريات، لنقُل ثمانين عامًا أو أكثر.. سيستعيد الآن ما في ذاكرته.. ويسألني: إنتِ شو جابِك؟ فلا أجيب. فأنا الباحثة عن مفتاح لمعرفة ما جرى، حتّى لا يضيع كما يضيع الواقع الآن.
أفتّش الحشد المهاجر والنازح في مخيّلتي بحثًا عن كفر برعم، تلك المعلّقة بين أصابعه وتنبت وما كبُرتْ.. ما زالت على حالها قبل أن يتركها مُرغمًا..
“إسّا بقعد وبطول قلم وورقة وبخطِّطلك شوارع البلد وبيت بيت.. بسّ إنتِ شو جابِك”؟

بهذه الجملة بدأ العمّ عطا الله شقّور أبو أسعد. وهو ابن للعائلة الكاثوليكية الوحيدة في بلدة كفر برعم. كانت كفر برعم القرية الوحيدة في فِلَسطين التي تحوي أغلبية مارونية مع أقلّية من الكاثوليك. فعائلة شقّور، والتي أصلها من حرفيش، كان يعمل أبناؤها في البناء، وبحكم المهنة التي امتهنوها منذ مئات السنين التجأوا إلى عدّة بلدات وبنُوا فيها. وكانت كفر برعم من تلك البلدان التي أحبّوا العيش فيها فسكنوها، إضافة إلى عائلة بدين، وهي عائلة كاثوليكية، أيضًا، أتت من بلدة يارون – جنوب لبنان.
يقلِّب العمّ عطا الله صفحات من دفاتره ويقرأ من ديوانه المطويّ أبياتًا معطّرة، هو لا ينعش ذاكرته، إذ ظلّت هناك، فيقول: قبل احتلال البلد بعدّة أيّام حلّقت طائرة في سماء برعم وقد كانت تقذف من الجوّ براميل متفجّرات، سقط واحد من هذه المتفجّرات داخل أحد البيوت، فطيّر باب البئر، هربت مجموعة من البنات خوفًا، فسقطت اثنتان في البئر ولقيتا حتفيهما.
بداية تمّ قصف بلدة سعسع من قبل الـ “هاﭼـاناه”، بعدها بثلاثة أيّام بدأ سكّان برعم بالنزوح، وقد كنّا نشاهد سكّان جنوب البلدة من الرامة، دبوريّة، صفوريّة، وغيرها يرحلون إلى الشمال عند الحدود اللبنانية، يحملون أمتعتهم على الأبقار والحمير. كانت الـ ” هاﭼـاناه” متمركزة في مِنطقة “ميرون”، وكانت بالمقابل الكتيبة العراقية موجودة في أرض الجشّ، وقد استطاع القائد العراقيّ قطع الطريق على قوّات الـ “هاﭼـاناه “، ورغم ذلك تبدّلت الأمور، ولا ندري ما الذي حصل، فقد دخلت الـ “هاﭼـاناه ” الصفصاف، وقد قتلت 90 شخصًا، ومن ثَمّ توجّهوا إلى قرية الجشّ، وبعدها جاء دور كفر برعم.
رُفِع العلم الأبيض على ظهر الكنيسة، وقُرع جرسها، وهي الكنيسة الوحيدة في البلدة، وتعود إلى طائفة الموارنة، وكانت العائلة الكاثوليكية، عائلة شقّور، تتمِّم كلّ المستلزمات والواجبات الدينية في هذه الكنيسة، إذ لم يكن لهم راع. وقد أوصى، يومذاك، مطران العرب والمسلمين، المطران الحجّار، بأن يَعتبر راعي كنيسة الموارنة عائلة شقّور ضمن رعيّته، وقد رفض إقامة كنيسة خاصّة بالعائلة.
الساعة، الآن، الثالثة عصرًا، من يوم 13 تشرين الثاني 1948، حين حضر ضابط المخابرات في اللّواء السابع في الجيش الإسرائيليّ، عمانوئيل (مانو) فريدمان، إلى قرية كفر برعم، برفقة أربعة جنود، كان عطا الله يخطّ أوّل أبيات الشعر عن برعم. جاء الأوّل ليأمر السكّان، بناء على أمر وزير الأقلّيّات، بيخور شالوم – شطريت، بمغادرة منازلهم خلال 48 ساعة إلى مسافة «خمسة كيلومترات» شمالًا باتّجاه لبنان. وقد خرج عطا الله باحثًا عن برعم يحضنها في عينيها ليحفظ كلّ ما فيها في ثنايا قصيدته.
اُحتُلّت القرية قبل نحو أسبوعين من هذا التاريخ، خلال عملية «حيرام» العسكرية التي هدفت إلى احتلال قرى مِنطقة «الجيب العربيّ» الواقعة في الجليل الأعلى، ومنها قرى قضاء صفد، وسعسع (قضاء صفد) وعيلبون (قضاء طبريّة) ومجد الكروم (قضاء عكّا).
طلبوا من الناس الخروج من البلدة لمدّة أسبوعين بحُجّة تنظيف البلدة من الألغام! يعود ويشدّد عطا الله: “لم نأخذ أيّ شيء، على أمل العودة بعد أسبوعين كما وعدونا”. خرج عطا الله شقّور وهو يحمل دفتر أشعاره مع سمعان، مطانس، بطرس، أسعد، حنّا، وميخائيل، ولم يتجاوز يومها الحادية عشْرة من عمره.
خيّرونا إمّا النزوح إلى قرية رْميش في لبنان وإمّا إلى الجشّ، فاخترنا الجشّ، لوجود الأقارب والأصحاب هناك، وبعد نحو أسبوع في الأحراج والمغاور وكروم الزيتون القريبة، توجّهنا إلى البيوت المتروكة في قرية الجشّ المجاورة، وقد بلغ عددها نحو 400 بيت. ولأنّها لم تتّسع لجميع سكّان كفر برعم فقد اقترح الضابط فريدمان على الأهالي التوجّه إلى قرية رْميش اللبنانية المجاورة، وهي قرية مارونية أيضًا، مع ضمان الحفاظ على ممتلكاتهم في كفر برعم، وهو ما دفع بقسم من السكّان إلى التوجّه إلى رْميش والقرى المارونية المجاورة الأخرى في جنوب لبنان. وقد جاء أمر إخلاء كفر برعم مفاجئًا للأهالي.
اِستقرّ عطا الله مع عائلته في بيت من بيوت أهل الجشّ الذين نزحوا إلى لبنان. وقد عاشوا حياة طبيعية في الجشّ، إذ إنّ أهل الجشّ لم يشعروهم للحظة بأنّهم لاجئون، فانضمّ عطا الله ومن معه من رفقاء إلى مدرسة البلدة، بعد أن اعتاد مشاركة زملاء له على مقاعد الدراسة في بلدته برعم، من يارون ومن سعسع ومن قرية فارة والصالحة. ومن كان يُنهي الصفّ السابع كان يكمل تعليمه الثانويّ في صفد أو في البصّة. في الجشّ كلّ شيء تغيّر.. البيت، الحارة، الناس، المدرسة، كروم التين، إلّا القصائد المخبّأة التي ظلّت برعم في محجر أبياتها وقوافيها وبحورها.

كان عطا الله وأهل بلدته قد اطمأنّوا إلى أنّهم لن يلقوا مصير التهجير الذي لاقاه إخوانهم من البلدات المجاورة. فقد أزالت السلطات حظر التجوال الذي ترافق مع احتلال القرية، كما قام الضابط فريدمان نفسه، برفقة مدير دائرة الأقلّيّات في مدينة صفد، رفول آبو، بإحصاء سكّان كفر برعم في السابع من تشرين الثاني؛ فبلغ عددهم 1,050 شخصًا. وهذا ما أعطى السكّان الانطباع بعدم نيّة الجيش الإسرائيليّ طردهم، خصوصًا أنّ القرية لم يكن لها شأن في المعارك، كما أنّها لم تسجّل أيّ مقاومة عند احتلالها.
يعود ويتذكّر عطا الله تلك الأجواء الاحتفالية في برعم. ففي كلّ فصل من فصول السنة يُقام عرس احتفاليّ كبير، يحتفل فيه الناس بقدوم أحد المواسم. كانت كلّ عائلة في برعم تمتلك كرم تين أو كرمين، إضافة إلى التفّاح، كان يأتي فلّاحون من عين الزيتون أو من صفد حتّى يضمنوا الكروم ويقطفون التين. في تلك الأيّام التي تكون فيها الكروم مضمونة، كان يأتي شباب برعم القاطنون في حيفا وغيرها إلى البلدة كلّ يوم جمعة، أي نهاية الأسبوع، لزيارة الأهل ولإقامة السحجة والدبكة وترديد الأغاني الشعبية، كأنّه مِهرجان كبير. أين عطا الله من كلّ هذا، الآن؟!

إقرت شقّ التؤام
منذ صغري لا أذكر أنّني سمعت عن برعم بدون إقرت والعكس صحيح، وكما يقول العمّ عطا الله: “أصبحتا حارة واحدة”. قد يظنّ الكثيرون أنّ البلدتين مجاورتان جِغرافيًّا، لكنّ من يتمعّن في الخريطة يرى أنّهما بعيدتان، وما قرّبهما إلّا الحالة القانونية التي التصقت بهما لاحقًا، فباتت قضيّتهما واحدة مسجّلة في ملفّ قضائيّ واحد مركون هناك، في أقبية المحاكم؛ وقد أكل الدهر عليه وشرب!
في 16 و 17 أيلول 1953، قصف سلاح الجوّ الإسرائيليّ بيوت كفر برعم ودمّر جميع مبانيها باستثناء الكنيسة والمدرسة. وقد تمّت عملية القصف هذه أمام أعين السكّان الذين وقفوا على تلّة تبعد نحو كيلومترين، وتُسمّى «تلّة المبكى» أو «مبكى البراعمة». وقد جاء تدمير قرية كفر برعم بعد نحو سنتين على تدمير قرية إقرت، في كانون الأوّل 1951، بناء على خُطّة سُمّيت «الترانسفير الارتجاعيّ»، وهي خُطّة تمّ تبنّيها في حَزِيران 1948 لمنع اللّاجئين من العودة إلى قراهم. اِلتجأ سكّان كفر برعم إلى القضاء، حيث قدّموا دعوى قضائية من أجل العودة إلى قريتهم. وفي 8 تشرين الأوّل أصدرت المحكمة الأمر التمهيديّ الذي نصّ ما يلي: «تصدر المحكمة بهذا أمرًا تمهيديًّا موجّهًا إلى المستدعى ضدّهم لتفسير عدم إعادتهم سكّان كفر برعم إلى قريتهم وأراضيهم، وإعادة القرية إلى أصحابها، وسبب عدم امتناعهم عن معارضتهم في استعمال أملاكهم استعمال المالك».
جاء ردّ السلطات الحكومية سريعًا بوجوب اللجوء إلى أنظمة الطوارئ، باعتبار كفر برعم وإقرت معها مناطق أمنية مغلقة منذ أيلول 1949. وبموجب هذه الأنظمة يحقّ لوزير الأمن استصدار أوامر خروج للسكّان الدائمين في المناطق الأمنية، وهو ما لجأت إليه السلطات الحكومية سنة 1951، في أعقاب الدعوى القضائية؛ حيث استصدرت أوامر خروج لسكّان كفر برعم وإقرت، أي بعد ثلاث سنوات على تهجيرهم من قريتيهم، وذلك لشرعنة عملية التهجير، والالتفاف على المحكمة العليا.
وفي 30 تشرين الثاني 1951، وقّع اللّواء يوسف أﭬـيدار أوامر لأهالي كفر برعم الموجودين في إسرائيل، بمغادرة المِنطقة الأمنيّة التي تقع كفر برعم ضمنها. وبناء عليه، أصدرت المحكمة في 18 كانون الثاني 1952 قرارها الذي يلغي أمرها التمهيديّ، فرهنت العودة إلى كفر برعم بحيازة تصريح من الحاكم العسكريّ.
ويعود عطا الله إلى كفر برعم ليعزّز هُويّته ويرسِّخ صلته بأرضه، ويتغنّى بجمالها فيتفتّح عالم قصائده وصوره الموضوعة بإحكام، في ألبومات مسجّلة خلف كلّ صورة جملة للذكرى.. فيُكرمنا بإحدى قصائده، إذ يقول فيها:
“يا مَنْ تزُورونَنا بلدًا يُسرُّ بكم
نِعمَ الزيارة نحن فيها في نِعَمِ
قبلَ مجيئكُمُ قد جاءَ برقُكُمُ
وهو يشيرُ لشدِّ العزمِ والهِممِ
قوموا قد جاء إنسانًا يزوركم
بين الرعايا وهو نارٌ على عَلَمِ
سيروا إيابًا وربُّ الكونِ يحفظكم
لكنْ، توصّوا بنا عند قضاءِ الحُكُمِ”
ولمنْ هذه القصيدة يا عمُّ؟
للمطران..
وما الغاية؟
حتّى يوافق أن يكلّلني!
وهل وافق؟
معلوم! كلّلني عام 1963 بصحبة ثمانية خوارنة آخرين.

يا الله!! ما الذي يحدث؟ هذه الحشود المذعورة المرتحلة نحو الشمال.. عبرت الغيوم والشمس اللّاسعة كالعقرب والغبار.. نعم الغبار.. “اِحذر”، تقول له أمّه، ” كيْلا تتّسخ”.. فيُطمئنها بألّا تقلق، ما هي إلّا ساعات ونعود.. فيتأبّط مجموعته الشعرية ويسير ببطء، وتدقّ الساعة وما زالت تئنّ قصيدة رثاء.. كانت برعم وصارت برعم وما زالت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *