بمناسبة بدء الصوم الأربعيني لدى الطوائف المسيحية التي تسير على التقويم الشرقي أرسل لنا الأب ديمتريوس سمرا كاهن رعية الروم الأورثوذكس في حيفا مقالا بعنوان"الصوم وارتباطه في حياتنا الكنسية"
**************************************************
الصوم بأبسط تعريفاته هو الإمساك عن الطعام والشراب بمقدار هذا هو أقل الصوم وأول درجة من درجات الصوم . وإذا نحن نتكلم عن إمساك عن الطعام والشراب بقدار . السؤال يأتي كم هم المقدار ؟ ما هي حدود الصوم ؟ حدود الصوم الحاجة . حاجة الجسد حتى يقدر يستمر ولكن هذه الحاجة ، حاجة الجسد ، يستحيل تحديدها إلا على المتقدمين في أصول الحياة الروحية . دائماً أو في معظم الحالات هناك خلط بين ما هو له علاقة في حاجة الجسد وما هو له علاقة بشهوة الجسد .
لذلك الكنيسة هي التي تحدد لجمهور المؤمنين الكبير والآباء بأديرتهم عبر التاريخ . كذلك كانوا يحددون وتحديداتهم كانت تطال الجمهور الأصغر الذين هم متعهدينه أو الذين هم يأثرون فيه بطريقة أو بأخرى بشأن النظام الغذائي للرهبان طبعاً هناك أمور كثيرة كتبت وتعلمت وتمارس حتى الآن بالعديد من الأديرة . بالنسبة لنا نحن المؤمنين كثير مهم أن نلتزم بالإرشادات والقواعد المرعية في الكنيسة لأن هذه الإرشادات والقواعد المرعية هي ثمرة خبرة طويلة للكنيسة في هذا المجال . أما إذا سلكنا بحسب مقايسنا الذاتية ، بحسب مزاجنا ، فهذا طبعاً ينطوي على خطر الشرور والضياع موضوع الإستنساب الشخصي موضوع دقيق ولا يجوز الخضوع له . أحسن الواحد يظل تحت مظلة الكنيسة وإلا منفعة الصوم تضيع هذا بالنسبة للإمساك عن الطعام والشراب .
والحديث عن الإمساك عم الطعام والشراب يجرنا بالمقابل الى الحديث عن الشبع وعن الشره ، أو الشراهة . هنا آباؤنا عبر التاريخ كان لديهم أمور كثيرة يقولوها بشأن مخاطر الشبع والشره . الموضوع ليس متعلق فقط بصحة الجسد لأن الإنسان ليس جسد بل عنده جسد . الإنسان نفس وجسد وروح . بخبرة الآباء ، وطبعاً آباؤنا عموماً لم يحكوا إلا ما إختبره أو إختبروه ، بحسب خبرتهم الشبع يعني إمتلاء البطن والشراهة هما رأس الأهواء ، رأس الأهواء بمعنى الكلمة . الشبع يجعل النفس تميل الى التراخي ، يجعل النفس تميل الى الزنى ، يجعل النفس تميل الى حبّ النوم , وبسبب جفاء في القلب . والشبع كذلك يعملنوع من بخار في النفس . هنا البخار هو الأفكار السمجة والأمواج الصادرة من الأدناس من هذه النفس . والشبع والشراهة يولدان البلادة والثرثرة والدالّة والسخرية والمناقضة والخيلاء والمساندة هذا بحسب القديس يوحنا السلمي . طبعاً الشراهة تساعد على هذه الأمور كلها سوية . تدفع الإنسان بهذا الإتجاه . كذلك الأمر الشبع يؤكد الغفلة ، يعني يصير الواحد نعسان ، نصف نائم في نهاره وفي ليله . الذهن ينعس وكذلك الأمر تولد الوقاحة في النفس ومحبة العالم وشهوة العالم والطياشة ، يصير الواحد ذهنه وكأنه طائش . بحسب القديس يوحنا كرونشتاد :" إمتلاء البطن موشر للعدو لكي يهاجم القلب ". وبنفس الوقت كذلك القديس ذيوذوخوس أسقف فوتيكن يقول :" الشبع يجعل الذهن يصير جبان وكسول " . طبعاً معظمنا ليس كثيراً يعلم بهذا الجو الذي تحدثه الشراهة ولكن خبرة الآباء هي خبرة الكنيسة وهي معطات لكل المؤمنين حتى ينتفعوا منها .
***************************************************
الأحد الأول من الصوم: أحد الأرثوذكسية (رفع الأيقونات المقدسة)
في الأحد الأول من الصوم تقيم الكنيسة المقدسة تذكار انتصار آباء الكنيسة على الهراطقة الذين رفضوا تكريم الأيقونات. ما علاقة تكريم الأيقونات بالأرثوذكسية؟ الأرثوذكسية تعني "استقامة الرأي" أو عملياً استقامة ما تسلّمه الرسل عن الرب من تعاليم وسلّموه إلى الكنيسة جمعاء. لكن ما ارتباط الأرثوذكسية بالأيقونة؟ لقد علمت الكنيسة مستندة على أقوال السيّد ورسله أنَّ الله تجسّد. ويؤلف مجيء المسيح في الجسد أساس إكرام الأيقونات. فالمسيح المتجسّد هو الصورة الجوهرية أو المثال الأصلي لجميع الصور. القديسون هم صور حيّة له، إنهم صورٌ صادقة لتجسّده. فنحن إذ نسجد لأيقوناتهم، لا نسجد عبادة للخشب بل سجود إكرام لمن صوّر عليها وإذ نسجد لأيقونة المسيح، نسجد سجود عبادة للمتجسّد من أجلنا. الأيقونات تعلّمنا أننا مدعوون إلى أن نصير صوراً للمتجسّد،… نسمع في الشكر السنوي الذي يتلى بعد زياح الأيقونات. “أننا في الأيقونات نعاين آلام السيّد الصائرة لأجلنا أعني الصلب والقبر والجحيم مماتاً ومسلوباً وجهادات الشهداء وأكاليلهم وخلاصهم بوساطة المسيح… . فالذي يقرّ بالتجسد يقرّ به بالقول والفم والقلب والعقل بالكتابة والأيقونات، يقرّ بإيمان الرسل "هذا الإيمان الذي وطّد المسكونة…" كلنا مدعوون أن نصير أيقونات للمسيح فلذلك نعيّد في هذا اليوم لمن سبقونا لعلهم بشفاعاتهم يساندوننا لنصل إليهم.
الأحد الثاني من الصوم تذكار القديس غريغوريوس بالاماس
تعيد الكنيسة في الأحد الثاني من الصوم لقديس عظيم، صار أيقونة للمسيح صورة الآب الوحيدة. القديس غريغوريوس بالاماس هو أحد القديسين الذين دافعوا عن عقيدة النور الإلهي. تعلّم الكنيسة الأرثوذكسية، وكما رأينا في الأحد الأول من الصوم أن المؤمنين مدعوون أن يصيروا أيقونات للمسيح وذلك عبر المشاركة في النعم أو القوى الإلهية (أي ما يصدر عن الله). وتؤكد كنيستنا مستندة على تسليم الرسل أن جوهر الله لا يرى لا في هذه الحياة ولا في الحياة الآخرة بل ما نستطيع أن نراه هو ما يصدر عن هذا الجوهر كما وتعلم أن الإنسان، إذا استنار وتطهر، يستطيع أن يرى هذه القوى الصادرة عن الله في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى…
في القرن الرابع عشر، ظهر تعليم جديد يدعي أن الإنسان يستطيع أن يرى جوهر الله وأن هذه النعم أو القوى الإلهية هي مخلوقة، فانبرى القديس بالاماس ليدافع عن إيمان كنيسته عن عدم رؤية جوهر الله أبداً. القديس بالاماس يدعونا إلى التمثل بالسيد للمشاركة بالنور الإلهي غير المخلوق ونحن نمدحه في هذا الصوم لأن الصوم رحلة إلى النور الظاهر من القائم من بين الأموات كما أشرنا سابقاً. فنحن نتقدم من فخر تسالونيكية قائلين: "افرح يا من تكلم في مجد الله حسناً، افرح يا من قلت أن طبيعة الله علو لا يمكن الصعود إليه بل أن المشاركة تكون بالقوى الإلهية، افرح أيها الكارز بالنعمة".
الأحد الثالث من الصوم، أحد السجود للصليب المقدّس
في منتصف الصوم، تنصب الكنيسة أمامنا صليب المسيح، تستدعى إيماننا وتقوانا. فقد رأت أمنا الكنيسة أن الشيطان يبدأ بزعزعة إيمان الصائم في نصف الصيام، فوضعت أمامه الصليب المحطَّم الشيطان والشر والموت لكي يتعزى ليصل إلى يوم الصلب والقيامة. دور الصليب دور مهم في قصّة الخلاص، إذ عليه افتدانا يسوع من آلامنا وقدمنا إلى أبيه" أبناء العيب فيهم" هذا الصليب هو كشجرة نستظل بها فنستريح واضعين أهواءنا بعيداً وقاهرين الشيطان عدوّنا، لكي نجيز بقية الطريق، طريق الجهاد والتوبة طريق الصور لنرى المسيح متعرشاً على صليبه، وغالباً الموت بموته. قوة الصليب تصوننا من معاثر الشيطان وآلام الجسد والنفس وتؤهلنا لأن نجوز ميدان الصوم بسلام لكي نصل للقيامة المحيية.
في الإنجيل الذي يتلى اليوم دعوة لحمل الصليب هل أنا مستعد لأن أحمل الصليب وأتبع المسيح؟ … هذا سؤال يُطرح على ضمير كل واحد منا…في هذا اليوم يزيح الصليب في الكنيسة، ويوضع في وسطها لأنه حاميها… إنجيل هذا اليوم ينتهي بهذه العبارة: “الحق أقول لكم، في جملة الحضور ههنا من لا يزوقون الموت، حتى يشاهدوا ملكوت الله آتياً بقوة…".ملكوت الله الذي ننتظره مجيء وبقاء ليسوع في نفوسنا فليؤهلنا الرب لمشاهدته بقوة صليبه الكريم آمين.
الأحد الرابع من الصوم: القديس يوحنا السلمي
عاش القديس يوحنا السلمي راهباً في دير سيناء في مصر، تنسك أولاً تاركاً الاهتمامات العالمية وذلك مدة أربعين سنة ثم إنتخب رئيساً لدير سيناء، وإذ كان قد تقدم في الفضيلة وإقترب إلى الكمال الإلهي كتب مؤلفه "السلم إلى الله" استجابة لطلب أحد الآباء أصدقائه. فيه وضع ثمرة خبرته الطويلة مع الله وقديسيه. هذا الكتاب يتألف من ثلاثين فصلاً كل فصلٍ درجة في سلّم الفضائل الإلهية، الذي يوصل إلى الاشتراك في النور الإلهي غير المخلوق، هذا النور الصادر من المسيح ربنا. ويكمّل تذكاره في هذا الأحد بتأثير من الأديار التي تبدأ بقراءة كتابه في أول الصوم وتصل إلى آخر فصل في هذا الأسبوع فتكرّم واضعه لأنه بواسطة هذا الكتاب، وحسبما نسمع في الترانيم الإلهية، أعلن لنا جلياً منهج الصعود العلوي… فالقديس يوحنا السلّمي الذي أدرك المنازل العلويّة يغبط كمثال للقداسة التي هدف الصائم.
أضف إلى ذلك أن القديس يوحنا السلّمي، حقق المثال الأعلى للتوبة التي يجب أن نضعها نصب أعيننا خلال الصوم. وسيرة حياته تعلمنا أنه لا معنى للتوبة والنسك والزهد والعفّة إلا إذا اقترنت بمحبّة الله، فتوجّه الكنيسة إليه هذا الابتهال: “أيها الآب المرشد،… لقد هتفت نحو الكل . أحبوا الله فتجدوا راحة أبدية… لا تفضّلوا شيئاً على محبّته…" وتضيف: "يا أبانا إن الرب قد جعلك مثل كوكب منيراً الأقطار أيها المرشد..”.
الأحد الخامس من الصوم: أحد القديسة مريم المصريّة
لعلَّ أفضل نموذج للتوبة يعطى للصائم في فترة جهاده الأخيرة، حيث تتكثّف عليه محاربات الشيطان داعية إياه لترك طرق المسيح، هو مثال القديسة مريم المصرية! عاشت هذه القديسة في الخطيئة، ثم تابت برؤيتها الصليب، فتركت كل شيء وتبعت المسيح فلم يفصلها عنه "لا شدة ولا همّ ولا ضيق" لقد وضعت نصب أعينها قول بولس الرسول: "لست أنا أحيا بل المسيح يحيا فيَّ، لأنه لا موت ولا حياة بل المسيح هو الكل في الكل". أن تذكار مريم هو آخر وألحّ دعوة توجهها الكنيسة إلينا قبل أيام الآلام والقيامة المقدّسة.
نشير إلى أنه في الخميس الذي يسبق هذا الأحد، ترتل الكنيسة خدمة قانون التوبة الكبير، الذي تشغل سيرة مريم المصرية فيه خبراً كبيراً الكنيسة، عند رؤية مريم توجه دعوتها لكل المتهاونين لكي يسرعوا إلى التوبة قبل أن يأتي الختن…. ومن هذا الأسبوع تبدأ الكنيسة بإعداد المؤمنين لإقامة لعازر وللآلام، ففي يوم الثلاثاء قبل الشعانين، نسمع " اليوم لعازر مات ودفن واختاه تندبانه…” ويوم الخميس، "لعازر له يومان ميتاً، إلا أن الخالق سيحضر مع تلاميذه، ليمنحه الحياة…." وهكذا تحضر الكنيسة أبناءها للاشتراك في الحدث لينمو المسيح في نفوسهم.