من أسرار المحن
كنت قد كتبت تحت عنوان ( الأنبياء أشد بلاء ) وقد استنتجت هذا الاستنتاج من حديث رسول الله المجيب على سؤال :أي الناس أشد بلاء فقال : ( الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه , فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة ) وقد يسأل سائل لما الأنيياء اشد بلاءا ولهم رب يعبدونه ويسجدون له ويتوسلون به , وقد اخذت حياة رسول الله محمد نموذجا لهذا الابتلاء لنستنتج من هذا النوذج أن الابتلاءات وإن كان ظاهرها محنة ولكنها تحمل في طياتها المنحة , فكما هو معلوم أن رسول الله محمد ولد يتيم الأب وماتت أمه وهو ابن ست سنين فكفله جده ولما بلغ عمرة ثمان سنين مات جده لينتقل الى كفاله عمه ولضيق الحال اضطر الى أن يعمل مع عمه وهو صبي في التجارة ورعى الغنم في جبال مكة وهذا يدل على أن هذه المحن التي مرت عليه في صغره أهلته لقيادة أمة في كبره وفي ذلك رد على السؤال : لماذا الأنبياء اشد بلاء ؟ ثم انه مما لا شك فيه أننا نكره البلاء والمحن ونحب السكون والدعة ولكن الواقع يفرض على الناس أن يعيشوا هذه المحن فيستنتجون في كثير من الأحيان أنهم كرهوا شيئا اراد الله منه الخير للناس وللشعوب قال تعالى ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم , وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ومن المنح التي توهب للصابر على المصائب انه يبشر هو ومن فقد من أحبابه بالجنة قال تعالى ( وبشر الصابرين الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وإنا اليه راجعون *اولئك عليهم صلوات من ربهم واولئك هم المهتدون ) ولما يرى المرء محنتة في فقد ولده او اعز الناس اليه فيصبر على ذلك يبشر بالجنة قال رسول الله ( إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول قبضتم ثمرة قلبه ؟ فيقولون : نعم . فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع . فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد ) فإذا علم الله من المؤمنين الرضى والصبر عوضهم خيرا مما أخذ منهم وجعل محنتم التي يصبرون عليها نتيجتها رضوانالله وجنة عدن ,وقد خلصت الى هذه النتيجة من خلال الحديث الذي روته السيدة عائشة عن رسول الله حين سألته عن الطاعون فأخبرها 🙁 أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء , فجعله الله رحمة للمؤمنين , فليس من عبد يقع الطاعون , فيمكث في بلده صابرا , يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له , إلا كان له مثل أجر شهيد ) وكم من صابر على المحن في زماننا له مثل اجر المطعون أو يزيد لذا لا بد من الصبر والثبات على الايمان بالله والعودة اليه في زمن الشدة بالدعاء والرجاء والتوسل بين يديه في الصلاة ليرفع الشدة عنه وعن المؤمنين وعن الخلق اجمعين لأنه وحده كاشف الضر ورافع المحن قال تعالى ( وإن يمسسكم الله بضر فلا كاشف له الا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير , وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ) ومن قلب المحنة تأتي المنحة هذا ما أكده قوله تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا ) وقد خاطب ربنا رسوله محمد بخطاب واضح أن من قلب المحنة تحصل المنحة لذا كن لله عابدا قال تعالى ( فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا * فإذا فرغت فانصب والى ربك فارغب ) فتحقق ذلك لرسول وكشف الله زيغ المنافقين وضعاف الايمان وكشف المعادن الثمينة من الرجال وهذا الحال يحصل بشكل دائم وقت المحن قال رسول الله ( الناس ما داموا في عافية مستورون * فإذا نزل بهم بلاء صاروا الى حقيقتهم , فصار المؤمن الى ايمانه , وصار المنافق الى نفاقه ) والمتتبع الى سيرة رسول الله وتراجم اصحابه يجد أن الجهر بالاسلام في عهد رسول الله كان في قلب المحنة فثبت وثبت معه اصحابه ولم يغيروا ولم يبدلوا حتى كانت حادثة الاسراء والمعراج كمحنة منحة لرسول الله فلما اخبر رسول الله بالاسراء ارتد عن الايماء الضعفاء وثبت ابو بكر حين قالوا له : أن محمدا يقول جاء بيت المقدس الليلة وعاد الينا ونحن نضرب اليها كبد الابل شهرا . فقال : أشهد أنه صادق . فقالوا : اتصدقه بأنه أتى الشام في ليلة واحدة ثم رجع الى مكة ؟ فقال : نعم , إني اصدقه بأبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء ) ويكفي في زمن المحن أن تكشف ما تكن الصدور وما كان موقف ابا بكر مثل ذلك الا لأن معدنه طيب ومن كان معدنه طيب لا يمكن أن ينخدع في وقت المحن قال رسول الله ( تجدون الناس معادن , خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا ) فؤلاء الأخيار هم المعادن الطيبة الذين ينصرون الضعيف ويعينون على نوائب الدهر ولا يسلمون اخوانهم فيظهر صدقهم من خداعهم أما المنافقين وإن ظهر عليهم مظهر الإيمان والتقوى قال تعالى فيهم ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن اصابه خير اطمئن به وإن اصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين )