الصَّوم الأربعينيّ المقدَّس- بقلم: الأب أغابيوس أبو سعدى المخلّصيّ

مراسل حيفا نت | 24/02/2009

 

   

إنَّ زمنَ الصَّومِ المقدَّس التي تحتفلُ به الكنيسةُ المقدَّسة هو زمنُ الرجوع والعودة إلى الله تعالى يتضمَّنُه عيشٌ لفضائلَ جمَّة منها: الخشوع، التَّقوى، الصَدَقة، مخافة الله والتَعَبُّد له. إنَّه زمنُ البكاء والنَّحيب على المنفى الذي يَعيشُه الإنسان في بُعدٍ عن الله تعالى؛ إنَّه زمن البكاء على الحياة الإلهيَّة التي فقدناها بعصياننا أوامرَ الله تعالى والتي من خلالها طُرِدنا من الفردوس والنَّعيم. وبالتالي، إنَّه زمن العودة إلى إنسان ما قبل الخطيئة والموت. هذا هو السببُ الأساس لامتناعنا عن أكل اللحوم ومشتقاتها في الصَّوم. ففي سفر التَّكوين 1: 29 يقول الله: "ها قد أعطيتُكم كلَّ عُشبٍ يُخرِجُ بِزرًا على وجه الأرض كلِّها، وكلَّ شجرٍ فيه ثمرٌ يُخرِجُ بِزرًا يكونُ لكم طعامًا". فالامتناع والانقطاع عن أكل اللحوم ومشتقاتها يعني في المفهوم اللاهوتيّ والروحيّ العودةَ إلى إنسان ما قبل الخطيئة، أي إلى زمن التنعُّم بالخيرات السَّماويَّة الإلهيَّة.

          نغوصُ قليلاً في مفهوم الصَّوم في الليتورجيَّة الكنسيَّة وكيف نستطيع نحن اليوم أن نعيش الصَّيام وأيّ نوعٍ من الصَّيام مطلوبٌ أن نَعيشَه؟

          إنّ الصَّوم الصَّالح هو الصَّوم الذي يأخذُ مكانَه الطَّبيعيّ في القلب. فالقلبُ هو مركزُ الإحساس والعاطفة وهو بالتالي مركزُ العلاقة بين الإنسان والله. فالإنسان الصَّائم يجب أن يجعل من قلبه هيكلاً حيًّا يَذبحُ المسيحُ عليه شهواتِه (أي الإنسان الصَّائم) وملّذاتِه وكبريائه وأنانيَّتِه وحقدِه و… ويخلقه من جديد إنسانًا جديدًا مُفعمًا بالرُّوح: "قلبًا طاهرًا اخلُق فيَّ يا الله" (مز 50: 12).

          ما هي ثمارُ الصَّوم للإنسان الصَّائم؟ إنّ ثمارَ الصَّوم الحقيقيّ والصَّالح هو اقتناءُ الفضائل الإلهيَّة الثلاث: الإيمان والرجاء والمحبَّة. هذه الفضائل هي التي تَطبعُ حياة الإنسان الصَّائم بأخلاقيَّة المسيح وهي بالتالي تَهدِفُ إلى إرتقاء الإنسان إلى سلّم الإلهيَّات ليستطيع أن يتَّحد بالمسيح المخلِّص.

          ما هو هدف الصَّوم؟ إنّ هدفَ الصَّوم هو بلوغُ القداسة التي ما هي إلا إشتراكٌ بقدسيَّة الله تعالى: "كونوا قدِّيسين كما أنّ أباكم السَّماويّ هو قدُّوس". 

          بماذا يرتبط الصَّوم المُعاش والحياتيّ في هذا الزَّمن المبارَك؟ لأنّ الصَّوم هو اشتراكٌ في قدسيَّة الله، فهو مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بما يلي:

1. التَّوبة: أي تغيير السيرة الذاتيَّة. فالإنسان ببُعده عن شريعة الله وتطبيقها في حياته اليوميَّة أصبح غريبًا عن الله وملكوته وهو بالتالي بحاجة ماسَّة إلى الرجوع إلى ذاته، يُراجع حساباته ويتَّخذ القرار المناسب لحياته. هذا الرجوع إلى الذات يشكِّل المرحلة الأولى من حياة التَّوبة. يُرافق التَّوبة في هذا الزَّمن المبارَك البكاء الذي تكلَّمنا عنه سابقًا لأنَّه يشكِّل بطريقة أو بأخرى النَّدم على الخطيئة.

2. الصَّلاة: وهي العلاقة المباشرة بين الإنسان والله. يبقى الصَّوم يتيمًا من دون الصَّلاة؛ فالصَّوم والصَّلاة هما الجناحان اللذان يطيرُ بهما الإنسان إلى السَّماء (من أقوال الأب بشارة أبو مراد المخلّصيّ، المقدَّمة دعوى تطويبه في روما للقداسة).

3. ضبط اللسان: إنّ الله تعالى لم يخلق اللسان إلا لتمجيد أعماله الإلهيَّة التي أتمَّها في خلائقه. هذا هو الهدف الأساس من وراء خلق اللسان. إلا أنَّنا في أحيانٍ كثيرة نقوم بتغيير وجهة سير وهدف اللسان عندما نستعمله كأداةِ لعنةٍ للآخرين ودينونة لهم. فننصَِّبُ أنفسَنا مكانَ الله في دينونة الإنسان الآخر كما لو كنّا نحن بلا خطيئة وبلا حاجة إلى رحمة الله ونعمته. إنّ الصَّوم لا يمكن أن يكون كاملاً وذا معنى ومغزى روحيّ إلا إذا قمنا بتطهير لساننا عملاً بالمزمور القائل: "أقم يا ربُّ حارِسًا لفمي، ورقيبًا على باب شفتيّ".

هذا باختصار ما أردتُ أن أتكلّم به عن الصَّوم الأربعينيّ المقدَّس. بدون عيشٍ للتَّوبة والصَّلاة وضبط اللسان نبقى بعيدين كلَّ البُعد عن الاشتراك الفعليّ بقيامة السيّد المسيح له المجد والإكرام. فالصَّوم هو عيشُ النّهار الذي لا مساءَ له، وهو بالتالي عبورٌ روحيّ للإنسان الصَّائم والمؤمن من الظلمة إلى النور ومن الموت إلى الحياة. آمين

الأب أغابيوس أبو سعدى المخلّصيّ

الرئيس الروحي لطائفة الروم الملكيّين الكاثوليك في حيفا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *