مفهوم الاستشهاد في المسيحيّة

مراسل حيفا نت | 19/08/2011


 

الشهادة والاستشهاد

«مارتوس» كلمة يونانيّة تعني الشهادة، وقد استخدمت في العصور الأولى للمسيحيّة للتعبير عن الشهادة للسيّد المسيح، مثل شهادة القديس بطرس الرسول لليهود يوم الخمسين بعد حلول الروح القدس «فقبلوا كلامه بفرح وانضمّ في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس». ولم تكن كلّ شهادة تُقبل بفرح كهذه الشهادة، فالإصحاح السابع من سفر الأعمال يذكر لنا شهادة القديس إستفانوس (رئيس الشمامسة في مجمع الليبرتيين)، والّتي انتهت برجم استفانوس، وبذلك صار أوّل شهداء المسيحية. في هذه الواقعة يظهر كيف يمكن أن تؤدي الشهادة إلى الاستشهاد، الأمر الذي تكرر كثيرًا بعد ذلك، حتّى إنّ كلمة مارتوس، والّتي تعني شاهد، بدأت بمرور الزمن وكثرة الاضطهادات تأخذ معنًى جديدًا، فأصبحت تعنى شهيد من أجل الشهادة والاعتراف بالمسيح. وإنّنا نلاحظ التقارب اللفظي للكلمتين، حتّى في اللغة العربيّة.

إنّ الاستشهاد في المسيحيّة ما هو إلّا شهادة لبر المسيح، وعمله الخلاصيّ، وفاعليته داخل النفس. فالنفس الّتي تحوي المسيح لا تستطيع أن تخفي نوره، فتشهد لمجد وغنى وجمال عمل المسيح فيها. النفس الّتي اشتعلت بالحب الإلهيّ لا تملك إلّا أنّ تُظهر ما بها من حقّ وخير، تعلنه مهما كان شكل الظلمة الخارجيّة، ودون أيّ اعتبار للألم الوقتي أو حتّى للموت. «رأيت تحت المذبح نفوس الّذين قُتلوا من أجل كلمة اللّه، ومن أجل الشهادة الّتي كانت عندهم» (رؤ 9:6).

تبدأ الشهادة للّه داخل النفس، فبعد أن تتلامس النفس مع المسيح تأتي لحظة حين يقرر الإنسان بعزم ثابت أن يطيع وصيّة اللّه، ويسلك في جميع حقوقه ببساطة. وبهذه المغامرة يدخل الإنسان في عهد مع اللّه، وفي علاقة سريّة مع الحقّ، يختبره ويستشعره، يتفاعل معه وينمو به وينمو فيه. ولا تخلو هذه العلاقة من صراع داخليّ، وجراح قد تكون غائرة، وآلام قد تكون مريرة.

أوجاع تارة من العدو الشيطان، ومرّة من النفس غير القادرة على الاحتمال، وثالثة من قصور المعرفة وعدم القدرة على الرؤية والتمييز. والعالم في الخارج يتربّص بالنفس المُنهكة. ولكن مرافقة الروح القدس ويده الحانية عندما تتسلّم النفس، تقتادها بكلّ حكمة في أحراش ومخاضات وقفار هذا العالم، مُسَخِّرَة لكلّ الظروف حتّى تعمل كلّ الأشياء معًا للخير. درس واحد تتعلّمه النفس من كلّ هذا، هو صدق اللّه، وهذا يكفي. على هذه الصخرة يقوم كلّ الإيمان بالمسيح، ويشتدّ الرجاء في موعد الخيرات العتيدة، وتتثبّت النفس في محبّة اللّه. بالتيقّن من صدق اللّه تتحرّر الروح من كلّ عبوديّة، وتتنقى من كلّ خوف، تتعلّم النفس كيف تكون صادقة مع نفسها أوّلًا ثمّ صادقة في كلّ شيء، فيتعلّم الإنسان كيف يعمل وينطق بالحقّ بلا مانع. وهذه هي كلّ مقوّمات 
 الشهادة للّه.
هكذا تبدأ الشهادة للّه بالصراع مع النفس، وصلب الجسد مع الأهواء والشهوات. ثمّ صراع مع العدو الذي يغربل النفس كالحنطة، مُستخدمًا كلّ الظروف الخارجيّة، مع حرب الأفكار. وبعد ذلك تكون الحرب سافرة يشنّها العالم بلا هوادة، ضدّ كلّ الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع.

ليست الشهادة للمسيح من عمل الإنسان، لكنّها عمل اللّه في الإنسان، حسب تدبير الروح القدس وخطّته البعيدة المدى لبناء الكنيسة. الشهادة للّه ليست هي عمل إراديّ يخطّط له الإنسان عن حماس. ولا هي تحتاج إلى شجاعة أو مواهب شخصيّة، ولكنّها ظهور الحقّ الذي فيك، حسب إرشاد وإعلان الروح القدس، الذي يستخدم كلّ موهبة من أجل البنيان. لهذا فالشهادة للّه لا تعتمد على قدرة شخصيّة أو مهارات ذاتيّة، كالقدرة على الإقناع والحوار، ولكنّها قوّة اللّه الّتي تعمل في الضعف، وتظهر ليس حسب قدرتي، بل حسب إرادته، من أجل الاحتياج، في الوقت المناسب.

يقول السيّد المسيح في حديثه الختاميّ للتلاميذ «ومتى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحقّ الّذي من عند الآب فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضًا» (يو 15 :26-27). فالّذي يشهد للمسيح هو الروح القدس، ونحن أيضًا نشهد بالروح القدس الّذي يحلّ فينا. من دون الروح القدس والانقياد الكامل للّه والخضوع للوصيّة، لا يستطيع أحد أن يشهد للّه.

 ما هو دور المسيحي في الشهادة للّه؟

الشهادة للّه ليست بالكلام أو بالجدل، ولكن بالعمل والحق. فالمسيحي الحقيقيّ يشهد لروعة وجمال وصيّة اللّه بأعماله عندما يُنفذ الوصيّة حبًا في اللّه. «لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الّذي في السموات» (مت 5 : 16). سفر دانيال درس عمليّ يوضّح ما هي الشهادة والاستشهاد. لقد شهد دانيال ورفاقه الثلاثة للّه، وذلك بطاعة وصيّة اللّه ببساطة وصلابة لا تلين في وداعة الحق. لم تكن غُربَتهم في السبي ولا التهديد مبرّرًا للتفريط في حقوق ووصايا اللّه لأنّه بالإيمان كانوا حاضرين أمام اللّه في الحق أينما ذهبوا «فللرب الأرض وملؤها».

لم تكن عبوديّتهم في أرض الأعداء مبرّرًا للفشل في عمل الخير، لأنّه بالرجاء أدركوا حريّة مجد أولاد اللّه، فصاروا «عتقاء المسيح». لم تكن البغضة والكراهيّة والدسائس المحيطة قادرة أن تتسلّل إلى قلوبهم، فعاشوا بكلّ إخلاص الحبّ لأنّهم أدركوا أنّ «محبّة المسيح تحصرهم». عاشوا الوصيّة، فأناروا وشهدوا لبرّ اللّه وجماله؛ لم تستطع الأسود الجائعة، ولا النار المحمّاة سبعة أضعاف أن تزحزح ثباتهم. تتقلّب الممالك وتتغيّر، بابل ومادي وفارس، وهم يشهدون لبرّ اللّه، مستأسرين كلّ فكر إلى طاعة المسيح، فأسروا ملوك الأرض حتّى مجّدوا اللّه في قديسيه «والحكمة تبرّرت (ظهر بِرُها) من جميع بنيها». إنّها صورة لانتصار السمائيّون على الأرضيين بمنهج وأسلحة وأساليب السماء وحدها، فلا تلبس أن تشهد الأرض صاغرة ومخضعة «حتّى الشياطين تخضع لنا باسمك». مثل جميل معاصر للشهادة للمسيح الأمّ تريزة. لقد شهدت لجمال وصيّة المسيح، بتنفيذ الوصيّة بالحب، فلم يسع العالم إلّا أن يحني رأسه إجلالاً لها. ولم يكن هذا التكريم إلّا بسبب المبادئ الّتي آمنت بها، الّتي هي وصايا المسيح «السالك طريقًا كاملًا هذا يخدمني». فالسّلوك بالكمال يخدم ويشهد للّه، دون حتّى أن ننطق بكلمة واحدة.

من ذا الذي يجسر أن يشهد للّه وهو لم يسلك بعد في حقّه؟ أو يدرك برّه؟ وبماذا يمكن أن يشهد إن لم يكن مختبرًا لقوة الوصيّة؟ إنّ هذه المحاولة للشهادة للمسيح قبل أن نعرفه ونثبت فيه هي محاولة فاشلة بل غاشّة، فبدونه لا نستطيع أن نشهد له. فإن كنّا متمسّكين بأعمال الظلمة، فإنّ إبليس يعمل فينا، فهل ممكن للشيطان أن يخدم اللّه بنا؟ إنّ إبليس صانع الشرور لا يمكن أن يخدم اللّه أو يشهد للّه. مثل هذه الشهادة لا تخدم المسيح، ولا تنفع الإنسان روحيًا، ولكنّها تخدم الذات الّتي تحاول أن تأخذ مجدًا من الناس على حساب المسيح والحق «لأنّي أشهد لهم أنّ لهم غيرة للّه ولكن ليس حسب المعرفة. لأنّهم إذ كانوا يجهلون برّ اللّه ويطلبون أن يثبتوا برّ أنفسهم لم يخضعوا لبرّ اللّه». (رو3:10). فالّذي يجهل برّ اللّه لا يمكنه أن يشهد له، بل إنّه يعثر في وصاياه. وأيضًا يقول بولس الرسول «وأكثر الأخوة… يجترئون أكثر على التكلّم بالكلمة بلا خوف. أمّا قوم فعن حسد وخصام يكرزون بالمسيح وأمّا قوم فعن مسرة. فهؤلاء عن تحزّب ينادون بالمسيح لا عن إخلاص ظانّين أنّهم يضيفون إلى وثقي ضيقًا.» (في 1 :14-16)
 

إنّ الشهادة للّه لا يمكن أن تتحقّق بكسر وصيّة اللّه، لأنّ الشهادة تتمّ على أعلى درجة من الحبّ للّه. «مَن يحبّني يحفظ وصاياي». فكسر وصيّة المسيح ليست فيها محبّة المسيح، ولا تشهد له. الشهادة للمسيح لا تقبح ولا تكذب ولا تبغض، وليست فيها التواء أو خبث أو نفاق وهي لا تحتاج إلى دعاية أو مهارة أو حكمة هذا العالم وافتخاره. وهي ليست وليدة انفعال عاطفيّ أو تعصّب أو حماس أو غيرة أو حسد أو تهوّر أو تستهدف المطالبة بحقوق شخصيّة أو أهداف قوميّة؛ ولكنّها أشبه ما تكون بإشراق الفجر داخل القلب، لا تلبس إلّا أن تنبلج كنور الصبح، مَن يستطيع أن يخفيها، ومَن يحتمل أن يقاومها. الشهادة للّه تتمّ على مستوى الاستشهاد والموت، ليس عن حماس أو تعصّب بل حبّ «ليس لأحد حبّ أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبّائه».

بهذه القوّة الّتي للشهادة أرسل يسوع تلاميذه بلا كيس ولا مزوّد ولا عصى للطريق. وقبل ذلك اختارهم من جُهَّال الأرض وأرسلهم كحملان في وسط ذئاب ليشهدوا له في ظلمة هذا العالم وظُلمه. إنّ هذه الإرساليّة العجيبة الّتي لا يمكن لأحد أن يتوقّع لها أيّ نجاح شهدت، وما زالت تشهد، بقوّة للّه عبر ألفين من السنين، وما زال صوت شهادتهم يدوّي عبر الأجيال صارخًا من وراء الزمن موبّخًا ومُبكتًا العالم على خطيّة وعلى برّ وعلى دينونة.» (يو 8:16). «الّذين لا تسمع أصواتهم في كلّ الأرض خرج منطقهم وإلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم.» (مز 18 : 3-4).

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *