لقد أقام الإسرائيليّون دولتهم قبل 63 عامًا وسط محيط عربي ضعيف، جاهل، وغارق في كثير من الأوهام المتراكمة، الّتي تحوّلت على مرّ الزمن إلى عقائد، أو عقد إن أردّت الدقّة.
ومنذ ذلك الحين عمل أبناء الحركة الصهيونيّة على كيّ وعي الشعب الفلسطيني في الداخل وطمس هُويّته، كما عمل أولئك على منع أيّة صحوة حقيقيّة لأبنائه – سياسيّةً كانت أم دينيّة أم اجتماعيّة – وعملوا على فرض الرواية والرؤية الصهيونيّة من خلال وسائل الإعلام وأجهزة التربية والتعليم، وغيرها من أساليب التأثير على الرأيّ العام.
ولقد فشلوا في ذلك! فبالرّغم من وجود سلبيّات في المجتمع العربيّ في الداخل، إلّا أنّه يشهد حالة من ازدياد الوعي بشكل عامّ، والوعي السياسيّ بشكل خاصّ، من مشاركة وتفاعل الجماهير الحاشدة في المناسبات الوطنيّة، وحتى ترسيخ الهُويّة الفِلسطينيّة في قلوب النّاس.
إنّ ازدياد الوعي لدى الوسط الفِلسطينيّ في الداخل يُقلق المؤسسة الإسرائيليّة، ليس فقط لأنّه عنصر هامّ في تقدّم وتطوّر الشعب، بل لأنّه يؤدي إلى بذل جهود أكبر للحصول على الحقوق المشروعة داخليًا وخارجيًا؛ داخليًا من خلال المؤسسات القانونيّة والقضائيّة، وهو ما أثبت فشله على مرّ العقود كون كل هذه المؤسسات ترضخ لجهاز الأمن الإسرائيلي. وخارجيًا من خلال المؤسسات الدوليّة والحقوقيّة، بإظهار سياسة التمييز العنصريّ التي تنتهجها إسرائيل ضد الفِلسطينيّين، ومن خلال التوعية العامّة وسرد الرواية الفِلسطينيّة في الجامعات الدوليّة ومن المنابر المختلفة في العالم، وفي المجال الفنيّ، إلخ.
لقد فاجأنا – إلى حدّ ما – اعتقال الشيخ رائد صلاح من قبل وكالة الحدود البريطانيّة والسعي إلى طرده، بحيث لا يُسمح له العودة إلى بريطانيا لمدّة 10 سنوات، ذلك بعدما دُعي بشكل رسميّ من قبل منظّمات مناصرة لفِلسطين وأعضاء بارزين من حزبي «العمل» و«الليبراليّين الديمقراطيين» الإنچليزيَين الكبيرَين، ليلقي كلمات في «يوم فلسطين» ومجلس العموم البريطانيّ (ألقى فيه كلمة وكان من المخطط أن يُلقي أخرى).
لم يعتمد قرار اعتقال وطرد الشيخ صلاح على أسس قانونيّة، إنّما جاء استجابةً لمطلب اللوبي الصهيونيّ وأنصاره، إذ اتّخذوا شعار «اللا-ساميّة» الزائف ذريعة للتحريض على الشيخ. هذا في الوقت الذي وعد فيه وزير الخارجيّة البريطانيّ، وليام هايچ، الإسرائيليين بتغيير قانون يسمح باعتقال أشخاص متّهمين بجرائم حرب خارج البلاد، وهو القانون الذي منع كثير من المسؤولين الإسرائيليين زيارة بريطانيا خشية الملاحقة والاعتقال.
إنّ خضوع الحكومة البريطانيّة لضغوط إسرائيل يأتي في سياق «خضوع عالميّ» للصهاينة يتطلّب التأمل؛
1) خضوع غالبيّة دول الطوق أثناء مسيرات العودة.
2 ) خضوع تركي – يوناني – دوليّ بشأن أسطول الحرية.
3) خضوع أكبر شبكة اجتماعيّة على الـ«إنترنت» «فيسبوك» – ومواقع أخرى – بإغلاقها الصفحات المناصرة للقضيّة الفِلسطينيّة، وإغلاقها وتزييفها لكثير من الصفحات الأخرى التي تهدّد مصالح إسرائيل.
4) خضوع أمريكيّ تام للإملاءات الإسرائيلية حول «حلّ الدولتين» و«عمليّة السّلام».
5) خضوع إعلاميّ، ليس بحاجة إلى تفصيل.
هذه الأمثلة بمثابة نموذج حيّ للنفوذ الصهيونيّ – اليهوديّ العالميّ ومدى تأثيره، وإنّ المذكور آنفًا يجعل القضية الفِلسطينيّة المعيار الإنسانيّ الحقيقيّ لدول العالم، والمعيار الثوريّ الحقيقيّ للدول العربيّة والإسلاميّة.
ذلك أنّه من الظلم والنفاق والفساد أن تدعم أمريكا ودول الغرب «حقوق الإنسان» و«حقّ الشعب في المقاومة وتقرير المصير» و«حقوق» أخرى في سوريا وليبيا على سبيل المثال، وترفضها في فلسطين. كما أنّه من الوهن والتخاذل والتقاعس أن تستجيب الدول العربيّة والإسلاميّة لأيّ مطلب صهيونيّ على حساب الفِلسطينيين.
إنّ قرار طرد الشيخ صلاح من بريطانيا لمنعه من المحاضرة هناك وسرد الرواية الفِلسطينيّة من وجهة نظر فِلسطينيّة، يشير إلى أنّ الإسرائيليين ضاقوا ذرعًا حتّى بالكلمة، وهي حالة أقرب إلى الضعف منها إلى القوّة، وإلى الهوس منها إلى العقلانيّة، وهي محاولة بائسة في زمن الثورة والحريّة.